2.نجتمع لنحتفل بهذه الليتورجيا الإلهيّة في الذكرى السنويّة الثانية لتفجير مرفأ بيروت، فنقدّم الذبيحة الالهية لراحة نفوس الشهداء المئتين والحادي والعشرين، ولعزاء عائلاتهم وذويهم، وأنسبائهم، ومن أجل شفاء الجرحى الذين أصيبوا بإعاقة دائمة بين الستة آلاف مواطن ومواطنة، وبعض الغرباء غير اللبنانيّين، ولنطالب بالتعويض لهم وللمتضرّرين من هدم بيوتهم ومؤسّساتهم ومتاجرهم ومدارسهم ومستشفياتهم ودور العبادة. ويشترك معنا في هذه الذكرى الثانية البابا فرنسيس بالنداء الذي وجّهه أمس في المقابلة العامّة إلى عائلات الشهداء والشعب اللبناني. فنشكره على محبّته الأبويّة ونصلّي من أجل شفائه التام، ومن أجل تحقيق أمنياته بشأن لبنان، وكما قال، وولادته من جديد. لذلك، نحن نؤمن بقيامة بيروت ومعها لبنان، فنعود منارة الشرق ومستشفى الشرق ومصرف الشرق ووطن التلاقي وحوار الحضارات والأديان بحياده الإيجابي الناشط.
إنّنا نرفع الصوت الغاضب مع جميع هؤلاء في وجه المسؤولين، أيًّا كانوا، وأينما كانوا، ومهما كانوا؛ أولئك الّذين يُعرقلون التحقيق كأنَّ ما جرى مجرّد حادث تافه وعابر لا يستحقّ التوقف عنده، ويمكن معالجته بالهروب أو بتسوية أو مقايضة كما يفعلون عادة في السياسة. ونسأل المسؤولين في الدولة: ماذا يريدون أكثر من هذه الجريمة، جريمة العصر لكي يتحرّكوا؟ وماذا يريد القضاء أكثر من هذا لكي ينتفض لكرامته ويستعيد دوره ويعود قِبلة المظلومين؟
3.نحن اليوم أمام جريمتين: جريمة تفجير المرفأ، وجريمة تجميد التحقيق. فالتجميد لا يقلّ فداحةً عن التفجير لأنّه فعل متعمَّد وإراديّ بلغ حدّ زرعِ الفتنة بين أهالي الضحايا. لا تستطيع السلطات الحاكمة والمهيمنة التبرّؤ ممّا حصل: فمنها من تسبّب بالتفجير، ومنها من علم بوجود المواد المتفجّرة وبخطورتها، وأهمل، ومنها من تلكأ، ومنها من سكت، ومنها من غطّى، ومنها من جَبُنَ، ومنها من عطّل التحقيق، ومنها من وجد في تجميد عمل القاضي المسؤول الحلَّ المريح لكي يتهرّب من مسؤوليّة حسم مرجعيّة التحقيق. إنها لعبة توزيع الأدوار بين عددٍ من المسؤولين على مختلف المستويات الدستوريّة والسياسيّة والأمنيّة والقضائيّة. هؤلاء إلى دينونة الله يُساقون، إذا هربوا من عدالة الأرض أو منعوا سطوعها. والتاريخ لن يُسقط من ذاكرته جميع من سعوا إلى محو حقيقة جريمة العصر وحقّ الشعب في العدالة. والله يدين منذ الآن هؤلاء المسؤولين. اليوم هو «مجيء سيّدهم».
المطلوب أن يستأنف قاضي التحقيق العدلي عمله وصولًا إلى الحقيقة. نحن لا نتّهم أحدًا ولا نظنّ بأحدٍ ولا نُبرّئ أحدًا. الناس في الشارع وأنتم منهم لا يصنعون العدالة، بل يريدون العدالة. إنّ تجميد التحقيق يساوي بين البريء والمذنب. نحن نرفض أن يكون بعض المتّهمين مذنبين وطليقين، وبعضهم الآخر أبرياء ومعتقلين، ومن بينهم من كتب إلى السلطات المعنيّة ونبّه ولا استجابة، بل هو موقوف منذ سنتين من دون محاكمة. ألا يشكّل هذا الواقع الظالم وخز ضمير وتأنيب لدى كل مسؤول؟
4.وكوننا نعرف من الخبرة عن القضاء المسيّس في لبنان، فقد طالبنا منذ اليوم الأوّل لتفجير المرفأ بتحقيقٍ دولي، إذ إن الجريمة قد تكون جريمة ضدّ الإنسانيّة في حال تبيّن أنها عمل مدبّر. وأتت تعقيدات التحقيق المحليّ والعراقيل السياسيّة لتُعطي الأحقيّة في تجديد المطالبة بالتحقيق الدولي إذا استمرّ الوضع كذلك. لا يحقّ لدولة أن تمتنع عن إجراء تحقيق لبناني وتمنع بالمقابل إجراء تحقيق دولي. والمستغرب أنّ جريمة تفجير المرفأ غائبةٌ عن اهتمامات الحكومة قبل استقالتها وبعدها، لا بل أنّ بعض وزرائها يتغافل عنها وبعضهم الآخر يعرقل سير العدالة من دون وجه حقٍّ، ومن دون أن يبادر مجلس الوزراء إلى التحرّك ومعالجة الأمر.
5.وأردنا بهذا الاحتفال أن نضمّ صوتنا إلى صوت أهالي الضحايا والشهداء وعائلاتهم، وإلى صوت الجرحى والمعوّقين، وصوت المتضرّرين. وكأنّهم باتوا جميعهم منسيّين أو حتى مزعجين للمسؤولين في الدولة لأنّهم يشكّلون لهم وخز ضمير، فيما هم يريدون خنق صوت ضميرهم إيّاه الذي هو صوت الله في أعماقهم: أما بين «قايين، أين أخوك؟» (تك 4: 9).