«أتيت إلى موطنكم الأصليّ لأقول لكم شخصيًّا إنّي أشعر بحزن، ولأطلب من الله المغفرة والشفاء والمصالحة، ولأعبّر عن قربي منكم، ولأصلّي معكم ومن أجلكم». هذا ما قاله البابا فرنسيس في خطابه الأوّل ضمن حجّ التوبة الذي يقوم به إلى كندا ويسعى من خلاله إلى الاعتذار من الشعوب الأصليّة للاعتداءات الكثيرة التي حصلت بحقّها في المدارس الداخليّة والإجباريّة في القرن ونصف القرن السابقين.
في منطقة ماسكواسيس الواقعة في مقاطعة ألبرتا غرب كندا والتي كانت قد شهدت منذ زمن بعيد حضور الشعوب الأصليّة، بدأ البابا اللقاء الأوّل من رحلته بزيارة قبور أطفال الشعوب الأصليّة غير المُعلّمة التي لا يُعرف لمن تعود، مصلّيًا بصمت. بعدها، توجّه على كرسيه المتحرّك إلى حيث اجتمع الوافدون لاستقباله. وهذا اللقاء خُصّص للشعوب الأصليّة المدعوّة الأمم الأصليّة وميتيس وإنويت.
حضر اللقاء رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، والحاكمة العامّة للبلاد ماري سايمون، وهي من الشعوب الأصليّة لكندا، ووزراء وأعضاء في مجلس الشيوخ وزعماء للشعوب الأصليّة الذين توافدوا من مقاطعات كولومبيا البريطانيّة ومانيتوبا ويوكون وساسكاتشوان الكنديّة.
في البدء، رحّب الزعيم ويلتون ليتلتشايلد، من الشعوب الأصليّة، بالبابا مُعبّرًا عن الفخر بوجوده بينهم. شكر ويلتون البابا، معربًا عن امتنانٍ عميق للجهد الشخصي الكبير الذي قام به الأب الأقدس للذهاب إلى تلك الأرض. بعدها، ألقى البابا كلمته التي شُوهد في خلالها أشخاص من الشعوب الأصليّة يدمعون ويبكون.
شرح البابا في كلمته أنّه حمل معه زوج أحذية طفل قدّمه له السكّان الأصليّون عند لقائهم به في روما منذ أربعة أشهر، علامةً على المعاناة التي ذاقها أطفال السكّان الأصليّين وبخاصّة الذين لم يعودوا قطّ إلى منازلهم من المدارس الداخليّة والإجباريّة. ففي روما، كان السكّان الأصليّون قد طلبوا منه أن يحمله معه في رحلته إلى كندا. وفسّر البابا أنّ زوج الأحذية هذا رمز أثار فيه ألم وسخط وخجل في الأشهر الماضية. وأضاف الحبر الأعظم أنّ هذه الأحذية تُحدّث «عن رحلة ومسيرة نريد القيام بها معًا. نسير معًا ونعمل معًا حتّى تزول آلام الماضي ويحلّ محلّه مستقبل فيه عدل وشفاء ومصالحة».
وتطرّق الباباإلى الاحترام الكبير الذي خصّصته الشعوب الأصليّة للأرض والعادات والتعاليم الصالحة وحبّ الحقيقة والشجاعة والاحترام والتواضع والأمان وحكمة الحياة التي عاشوها لينتقل إلى ما حصل من اعتداءات بعدها، قائلًا: «المكان الذين نحن فيه الآن ينتزع منّي صرخة ألم تدوّي في داخلي، صرخة ظلّت مكتومة في صدري ورافقتني في الأشهر الماضية». وفسّر أنّ تذكّر المأساة التي عانى الكثيرون من الشعوب الأصليّة منهاقد توقظ الذكريات والجروح وتثير الغضب والوجع لكن من العدل أن نتذكّر لأنّ النسيان يؤدّي إلى اللامبالاة، كما قال.
استفاض البابا بعدها في سرد سياسات الاستيعاب والتحرير التي عانت منها الشعوب الأصليّة وشملت أيضًا نظام المدارس الداخليّة الإجباريّة. كما شكر البابا هذه الشعوب لأنّها شاركته بهذه الذكرى الدامية، وشرح أنّه في هذا المكان «حتى تكون الخطوة الأولى في رحلة الحجّ والتوبة هذه بينكم تجديد طلب المغفرة منكم وحتّى أقول لكم، من كلّ قلبي، إنّي حزين جدًّا». وطلب المغفرة للطرق التي دعم بها العديد من المسيحيّين العقليّة الاستعماريّة للسلطات التي اضطهدت الشعوب الأصليّة.
وأضاف البابا: «على الرغم من أنّ المحبّة المسيحيّة كانت حاضرة، وكانت هناك حالات مثاليّة، ليست قليلة، في التفاني من أجل الأطفال، إلّا أنّ النتائج الإجماليّة لسياسة المدارس الداخليّة الإجباريّة كانت كارثيّة». وأعلن فرنسيس مستوحيًا من يوحنّا بولس الثاني: «أمام هذا الشرّ الذي يثير السخط، تجثو الكنيسة أمام الله وتطلب المغفرة عن خطايا أبنائها». وأضاف: «أريد أن أكرّر بخجل ووضوح: أطلب بتواضع الصفح عن الشرّ الذي ارتكبه العديد من المسيحيّين في حقّ الشعوب الأصليّة».
واعترف البابا أنّ الاعتذار ليس نهاية المطاف بل جزء مهمّ من عمليّة البحث عن الحقيقة ومساعدة الأحياء الباقين والشروع في مسارات الشفاء. وشرح البابا أنّ رحلة الحجّ هذه لن تسمح له بزيارة كل الأماكن والمراكز المعنيّة بمسيرة التوبة لكن جميع هؤلاء الأشخاص حاضرون في أفكاره وصلواته.
وقال البابا: «أنا هنا اليوم لأتذكّر الماضي وأبكي معكم وأنظر إلى الأرض في صمت وأصلّي عند القبور». وأشار إلى أنّ المسيح صنع من القبر بداية رجاء بعدما انتفت كل الأحلام ولم يبقَ سوى البكاء والألم والاستسلام، وخلص إلى أنّ الجهود وحدها لا تكفي للشفاء والمصالحة بل هناك حاجة لنعمة المسيح أيضًا.
انطلق البابا فرنسيس عند السّاعة 9:16 صباحًا بتوقيت إيطاليا من روما باتّجاه كندا. وكان الأب الأقدس قد أعلن الأحد الفائت في خلال صلاة التبشير الملائكي في الفاتيكان أنّه يقوم بحجّ توبة إلى كندا، آملًا أنّ تساهم هذه الرحلة في متابعة مسيرة الشفاء والمصالحة.