2.أجل، زرعه المسيح -ابن الإنسان- أوّلًا في بقاعكفرا بلدته، وكان فيها زرعًا جيّدًا بفضل تربيته في البيت الوالديّ، فنشأ صالحًا، تقيًّا ومُحبًّا للإماتات والتقشّف. كان ذلك نتيجة لما دخل قلبه في طفولته من مبادئ وتقاليد وقيم تعلّمها من محيطه العائليّ، ومن مثل خاليه دانيال وأغسطين المتنسّكين في الوادي المقدّس.
وفيما كان يرعى المواشي، وهو ابن عشر سنوات، كان ينصرف إلى الصلاة والتأمّل، سواء في السهل، أم تحت الشجرة، أم في المغارة التي تسمّى منذ ذلك الحين "مغارة القدّيس". هناك كان يخشع للصلاة أمام أيقونة العذراء.
3.وزرعه المسيح زرعًا جيّدًا في الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة التي دخلها سنة 1851، وهو بعمر 23 سنة، في دير ميفوق، ثمّ انتقل منه إلى دير مار مارون-عنايا. لبس في تلك السنة ثوب الابتداء واتّخذ اسم شربل، بدلًا من يوسف اسمه الأصليّ، وهو اسم شهيد، استشهد من أجل إيمانه سنة 107، أراد أن يتمثّل بهذا القدّيس ليعيش شهيدًا من نوع آخر. عندما أبرز في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1853، نذوره الرهبانيّة الثلاثة: الطاعة والعفّة والفقر، قرّر في نفسه أن يكون هبة كاملة للّه وللكنيسة وللرهبانيّة، صانعًا من نفسه ذبيحة مرضيّة للّه. فخرج من الاحتفال لابسًا من جديد ثوب المعموديّة، وعاش دائمًا في جدّة الحياة بحسب تعليم بولس الرسول (راجع روما 6: 4).
وعندما انتقل إلى دير القديسين قبريانوس ويوستينا في كفيفان، تهيّأ للكهنوت بالدروس الفلسفيّة واللاهوتيّة، على يد القدّيس الأب نعمة الله الحرديني. فكان الأب نعمة الله قدّام الأخ شربل المثال الأعلى في الرهبانيّة إذ كان يعلّم الإلهيّات ويعيشها فضائل روحيّة وأخلاقيّة.
4.ارتسم كاهنًا في 23 يوليو/تمّوز 1859 في كنيسة الكرسيّ البطريركيّ في بكركي. منذ ذلك الحين، راح يجعل القدّاس الإلهيّ محور كلّ النهار. عاد للتوّ بعد رسامته الكهنوتيّة إلى دير مار مارون-عنّايا، حيث عاش 16 سنة، قبل دخوله نهائيًّا إلى محبسة مار بطرس وبولس، على قمّة عنايا. تلألأ الأب شربل في دير عنّايا بكمال الفضائل الإنجيليّة: طاعة أسطوريّة، فقر كامل، عفّة ملائكيّة. وكان رجل صمت وصلاة وعمل، وخادمًا أمينًا محبًّا للجميع.
5.دخل المحبسة في 15 فبراير/شباط 1875، فاستكمل فيها استشهاده الروحيّ الكامل على مدى 23 سنة. أصبحت قمّة عنّايا، على علوّ 1350 مترًا عن سطح البحر، جبل الجلجلة بالنسبة إليه. سلّم ذاته بالكليّة للّه، منشغلًا في عيش الاتحاد الكامل مع الله، ما جعله يحمل في صلاته الكنيسة ولبنان والعالم بأسره. وعندما حانت ساعة أجله، أصابه فالج أوقعه على المذبح، وهو يرفع بين يديه جسد الربّ ودمه، في ذبيحة القدّاس، ويصلّي: "يا أبا الحقّ، هوذا ابنك ذبيحةً ترضيك". وكأنّه تماهى بشخص الذبيح ابن الله. وبعد نزاع دام أسبوعًا، طارت روحه إلى السماء، في 24 ديسمبر/كانون الأوّل 1898 ليلة ميلاد الربّ يسوع على أرضنا، فكان ميلاده في السماء حيث "يتلألأ كالشمس في ملكوت الآب"(متى 13: 43).