14 سنة على خدمته البطريركيّة... الراعي لآسي مينا: ثابتون في ولائنا لأوطاننا

الراعي في خلال مقابلة خاصة لـ«آسي مينا» في الصرح البطريركيّ-بكركي، لبنان الراعي في خلال مقابلة خاصة لـ«آسي مينا» في الصرح البطريركيّ-بكركي، لبنان | مصدر الصورة: آسي مينا

في الذكرى الرابعة عشرة لانتخابه وتنصيبه، يطلّ البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي في حوار خاصّ مع «آسي مينا» ليروي مسيرة خدمته البطريركية، ويضيء على أبرز الإنجازات والتحدّيات والمحطات التاريخيّة التي شهدتها السنوات الأربع عشرة الماضية. وفي غمرة الأزمات المتلاحقة التي يعيشها لبنان وآفاق الفرج الأخيرة، يعرّج الراعي على ملفّات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة. ولا يفوت سيّد بكركي الالتفات إلى مسيحيّي الشرق النازف، فيوجِّه إليهم رسالةً خاصّة نابضةً بالرجاء.

المحور الأوّل: 14 سنة في بكركي

يتأمّل الراعي في أربع عشرة سنة مضت على قيادته الكنيسة المارونيّة بحكمة ورجاء على الرغم من الأزمات المتراكمة التي اختبرتها بلاد الأرز ولمّا تزل، فيقول: «انتُخِبتُ بطريركًا بنعمة ربّنا منذ أربع عشرة سنة، وأخذتُ الشركة والمحبّة شعارًا. وللشركة بُعدان: الأوّل عموديّ يعبّر عن الاتّحاد بالله، والثاني أفقيّ يعبّر عن الاتّحاد أو الوحدة بين الجنس البشريّ. ولكنّ هذَين البعدَين مفقودان في مجتمعنا اللبنانيّ. ونتحدّث هنا تحديدًا عن الأعوام 2011 و2012 و2013».

ويؤكّد أنّ هناك تقاطُعًا في العلاقة بين الله والعالَم السياسيّ، مشيرًا إلى أنّ علاقة هؤلاء الفاعلين بالله شبه غائبة وببعضهم بعضًا غائبة تمامًا، إذ لا وجود للشركة التي تجسِّد الاتّحاد بالله والوحدة بين الناس؛ و«لكي نبني هذه العلاقة، نحتاج إلى المحبّة التي تشبه الإسمنت، والشركة تحتاج إلى هذا الإسمنت».

بهذه الرسالة انطلق الراعي في خدمته البطريركية لبنانيًّا وعالميًّا. رسالة لم تتحقّق كلّيًا حسب قوله «أوّلًا بسبب الفراغ الدستوريّ الذي عرفناه قبل انتخاب العماد ميشال عون، ومن ثمّ بسبب الحكومات التي كانت تُصَرِّفُ الأعمال حصرًا». ومع ذلك، سارت الشركة والمحبّة على مستوى الحياة الكنسيّة وفق ما أراد سيّد بكركي، فيشرح: «زرنا جميع المؤسّسات المارونيّة والجاليات اللبنانيّة المنتشرة في العالم ودول الاغتراب، وأصدرنا الكتب في خلال تلك الرحلات. ولكن، هل وصلنا إلى الكمال؟ حتمًا لا، لأنّ الكمال لله وحده».

ويؤكّد الراعي أنّه مرتاح الضمير إزاء ما فعله حتّى اليوم في خدمته البطريركيّة: «كرّستُ علاقتي بالجميع ولم أُقصِ أحدًا، ولكن في بعض المواقف، خصوصًا في عظات يوم الأحد، ما كان كلامي يعجب الجميع. وبعضهم كان يترجمه وفق منطقه الخاصّ. ربّما قصّرتُ، ولكنّني سعيتُ جاهدًا إلى بناء علاقة جيّدة بمختلف الأطراف، وأبواب بكركي مفتوحة للجميع». ويُضيفُ: «طالني التجنِّي والأمور المغلوطة. لم أُجِب عندما كان يُطلب منّي الردّ. أبوابنا مفتوحة لمن يريد معرفة الحقيقة، أمّا من لا يريد معرفتها فهذا شأنه، وفي النهاية ستُكشف الحقيقة». ويردف: «لا أحبّذ الإجابة من خلال الإعلام ولا أحاسب أحدًا؛ فمواقفي تتجلّى أمام ربّنا بكلّ شفافية».

محطّة تاريخيّة... تطويب الدويهي

شهِدت السنوات الأربع عشرة الماضية محطّات تاريخيّة في حياة الكنيسة المارونية عمومًا ومسيرة الراعي خصوصًا، أبرزها تطويب البطريرك إسطفان الدويهي. عن هذا الحدث المهمّ يقول الراعي: «إسطفان الدويهي هو البطريرك الأعظم الذي عرفته الكنيسة المارونيّة، ولم يأتِ مثله أحد إذ صنع التاريخ وكتب اللاهوت والليتورجيا. وقد يصعب على أحد قراءة كلّ ما أنتجه هذا البطريرك الذي كانت عظمته مخفيّة في قداسته، وهو اليوم طوباويّ، قدّيس بين القدّيسين، وأوّل بطريرك يطوَّب وفق القوانين الجديدة». ويتابع: «هناك بطاركة يجب أن تُعلن قداستهم، منهم البطريرك جبرائيل من حجولا الذي قتله المماليك حرقًا في ساحة طرابلس، ونحن نعمل على جمع تاريخه».

ويواصل الراعي حديثه عن الدويهي: «كان فخرًا للبطريركيّة وزغرتا وإهدن (منطقته) وعموم لبنان. فهو من دوَّن تاريخ لبنان، تاريخ الأزمنة. لم يكن للبطاركة مسكن وتعرّضوا للمضايقات أينما سكنوا. وفي عهد المماليك، عمدَ العثمانيّون إلى حرق الكتب بعد وصولهم إلى مركز البطريرك، فلم يعد لدينا تاريخ؛ لذا كان الدويهي يجمع الكلمات من هنا وهناك إلى أن صنع هذا التاريخ».

ويُضيف: «سكن الدويهي في قنّوبين، وفي كلّ يوم كان أحدهم يعتدي عليه. فهرب إلى كسروان ووصل إلى مجد المعوش (الشوف). فمتى كتب ذلك كلّه؟ هنا تكمن عظمة هذا البطريرك الذي يشكّل فخرًا لكلّ لبنان واللبنانيّين والكنيسة المارونيّة، وللكنيسة الشرقيّة أيضًا؛ فحدث تطويبه يخصّ الجميع، مسيحيّين ومسلمين. ونتمنّى أيضًا أن يعلَن البطريرك إلياس الحويّك طوباويًّا، إذ بلغت دراسة إحدى معجزاته مرحلتها الأخيرة. ولكنّ البطريرك الدويهي هو البطريرك الأعظم، ولا يمكن أن يُحقِّق أحد ما أنجزه. وهو عن حقّ ما كُتِبَ عنه تحت صوره: "منارة علم وقداسة"».

البطريرك المارونيّ الكاردينال بشارة بطرس الراعي. مصدر الصورة: البطريركيّة المارونيّة
البطريرك المارونيّ الكاردينال بشارة بطرس الراعي. مصدر الصورة: البطريركيّة المارونيّة

المحور الثاني: أزمات لبنان والولادة الجديدة

حاله حال لبنان، لم يكن درب البطريرك الماروني طوال السنوات الأربع عشرة الماضية مفروشًا بالورود. سنوات اختبر فيها الوطن الصغير ومعه الكنيسة المارونية مختلف أنواع الآلام والصعوبات والتخبّطات. اليوم، مع ولادة عهد جديد في رئاستَي الجمهورية والحكومة يلمح الراعي بارقة أمل. ويعلّق: «مع وجود رئيس للجمهوريّة، العماد جوزاف عون الذي يتمتّع بثقة داخليّة ودوليّة، ورئيس للحكومة، القاضي نواف سلام الذي يحظى بالثقة عينها، ومع الحكومة الجديدة، نستبشر بأنّ عهدًا جديدًا قد بدأ. لذا، نأمل إنجاز الإصلاحات اللازمة ودفع الحياة الاقتصاديّة لبلوغ النهضة. ولكن علينا أن ننتظر، لأنّ الإصلاحات تتطلّب وقتًا؛ وهذا لا يعني أنّ على الجميع أن يباركوا ويضعوا أيديهم؛ فهناك أيضًا من يعرقل، ولكن نتمنّى أن تسير الأمور كما يجب».

ويؤكّد الراعي أنّ هذه الإصلاحات يجب أن تشمل أيضًا سلاح حزب الله، لأنّ الدولة هي سلاح واحد وجيش واحد، وتحقيق ذلك يحتاج إلى وقت. ويشدّد على ضرورة حصر السلاح، والعودة إلى اتفاق الطائف وعيشه قائلًا: «حتّى الساعة لا وجود للاستقرار».  

ويُكمل: «كلّ ما ذكرته هو أساس لعودة المغتربين اللبنانيّين إلى وطنهم. ففي حال بلغنا ما نرجوه، أي انتعاش الاقتصاد وإحلال الأمن والازدهار وإعادة الودائع إلى أصحابها، وباتت هناك ثقة عامّة ومستوى معيشيّ لائق، يمكن أن يعود المغتربون وأصحاب الأدمغة إلى وطنهم».

المحور الثالث: رسالة إلى مسيحيّي الشرق

في شرق متألّمٍ ومثقلٍ بالأزمات، وفي بلدانٍ تخسر مسيحيّيها بوتيرة دراماتيكيّة، لا تفوت بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للموارنة مخاطبتهم برسالة خاصّة: «أنتم أبناء هذا الشرق في الأساس، فالمسيحيّة وجِدت في لبنان وفلسطين وسوريا والعراق، ولدينا جماعات منذ أيّام الرسل والمسيح. أنتم أبناء هذه الأرض قبل سواكم، يجب أن تظلّوا متضامنين، ثابتين في تقديم الولاء إلى أوطانكم».

المزيد

ويؤكّد الراعي أنّ لغة المسيحيّ تُترجَم في ولائه لوطنه، من سوريا وفلسطين والعراق ولبنان. ويستطرد: «عليه ألّا يترك وطنه، رغم الصعوبات والاضطهادات التي رافقت حياته منذ البداية. عليه أن يُقدّس ولاءه ويحيي الشهادة ربّما حتّى الاستشهاد، فهذه هي رسالته على الأرض».

ويرى الراعي أنّ الموارنة والكاثوليك والأرثوذكس يشكّلون كنيسة هذا الشرق حيث يتجلّى دورهم وتاريخهم أيضًا. ويضيف: «على شركائنا في الوطن أن يحترمونا، وعلى المسيحيّين أن يستمرّوا في أرض أجدادهم ويحافظوا عليها».

ويختم الراعي حديثه بمثالٍ عن تدخّل الله في ترسيخ المسيحية منذ بدئها: «حين بدأت الحياة المسيحيّة عرفت اضطهادات كثيرة في أيّام المملكة الرومانيّة الوثنيّة، واستمرّ ذلك ثلاثمئة سنة إلى أن تسلّم الملك قسطنطين الحكم وأوقف الاضطهاد، وجعل المسيحيّة دين الدولة. يُؤكّد هذا المثال أنّ الله وحده سيّد التاريخ، ويتدخّل كيفما يريد وساعة يشاء. لذا، علينا نحن أن نحيا الإيمان والشهادة في مجتمعنا مع إخوتنا المسلمين».

رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!

تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته