الشرق الأوسط يترنّح... هُدَنٌ كثيرة وسلامٌ خجول

قدّاس إلهيّ في كنيسة العائلة المقدّسة للاتين-غزّة في اليوم الأوّل من دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ (19 يناير/كانون الثاني) قدّاس إلهيّ في كنيسة العائلة المقدّسة للاتين-غزّة في اليوم الأوّل من دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ (19 يناير/كانون الثاني) | مصدر الصورة: صفحة رعيّة العائلة المقدسة-غزة في فيسبوك

أخيرًا، حلّ اليوم الذي طال انتظاره... أُبرِمَ اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس في غزة. ومنذ الأحد 19 يناير/كانون الثاني 2025، أي يوم دخوله حيّز التنفيذ، أُطلِقَ سراح ثلاث رهائن إسرائيليات مقابل تسعين أسيرًا فلسطينيًّا. إلّا أنّ الاتفاق هشٌّ، إذ كاد يُبطَل في مناسباتٍ عدّة بعد إعلانه في 15 يناير/كانون الثاني.

وفي المرحلة الأولى على مدى الأسابيع الستة المُقبلة، سيُحرَّرُ ثلاثة وثلاثون إسرائيليًّا، معظمهم أحياء، مقابل أكثر من 1900 أسير فلسطيني، معظهم إرهابيون مُدانون. وستشمل المراحل اللاحقة إطلاق سراح جميع الرهائن المُتَبقّين وإعادة إعمار القطاع.

وبالتزامن، سينتهي سريان اتفاق وقف إطلاق النار المُبرَم في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 بين إسرائيل وحزب الله في لبنان، ويرجَّح تمديده. وبموجب الشروط، ينسحب حزب الله بالكامل حتّى جنوب نهر الليطاني مقابل الانسحاب الإسرائيلي من لبنان. وسينتشر الجيش اللبناني وقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة لملء الفراغ. ولكن لم ينسحب أيٌّ من حزب الله أو إسرائيل بشكلٍ كامل، ولم يتمكّن الجيش اللبناني بعد من الحلول مكانهما.

إلّا أنّ لبنان استفاد من الهدوء النسبي في أعقاب انتخاب رئيس جديد للجمهورية ورئيس وزراء إصلاحي. وبحسب الميثاق الوطني اللبناني، وهو اتفاقٌ غير مكتوب منذ العام 1943، ينبغي أن يكون رئيس البلاد مارونيًّا كاثوليكيًّا ورئيس وزرائه مسلمًا سُنّيًّا.

أمّا في سوريا فيخيّم هدوءٌ هشّ. إذ شهدت البلاد تغيّرات هائلة في خلال الشهر الماضي بفعل سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 على يد تحالف جماعات مجاهدة إسلامية سنّية مدعومة من تركيا. واستغلّت إسرائيل سقوط الأسد لتحسِّن موقعها على طول الحدود، حيث استولت على 400 كيلومتر مربع من المنطقة العازلة ونقطة استراتيجية مرتفعة في جبل حرمون.

كما تحتلّ تركيا، حليفة حكّام سوريا الجدد، مساحات شاسعة من الشمال السوري. بينما يسيطر الأكراد السوريون المدعومون من الولايات المتحدة الأميركية على جزء كبير من شمال شرق البلاد. وزعمت إسرائيل أنّ تحركاتها الأخيرة هي «إجراءات محدودة وموقتة» ردًّا على الفراغ الأمني ​​على الجانب السوري. وتجدر الإشارة إلى وجود اتفاق رسمي لفض الاشتباك قائم بين الدولتين المتخاصمتين منذ مايو/أيار 1974 ونهاية حرب يوم الغفران (يوم كيبور) في العام 1973.

وفي الأماكن الثلاثة المذكورة، أي غزة ولبنان وسوريا، يشعر المسيحيون بالامتنان العميق إزاء هذا الهدوء على الرغم من قلقهم بشأن مستقبلهم. وأصدر أساقفة الأراضي المقدسة بيانًا في 16 يناير/كانون الثاني الجاري أشادوا فيه بوقف إطلاق النار في غزة وإطلاق سراح الرهائن والأسرى. وصلّى الأساقفة كي «يمنح وقف النار الجميع شعورًا بالسكينة والراحة». كما دعوا إلى حلّ هذا الصراع طويل الأمد مع تكريس «الرغبة في الاعتراف بمعاناة الآخر». كما أمل الأساقفة استئناف الحجّ إلى الأراضي المقدسة قريبًا، شريان حياة الجماعات المسيحية المحلّية.

وانخفض عدد المسيحيين في غزة من 1017 شخصًا قبل الحرب إلى نحو 600 حتى الآن، حسب بيانات «آسي مينا». ولقي قرابة 45 مسيحيًّا من غزة حتفهم بسبب أعمال العنف أو الأمراض المزمنة المتفاقمة نتيجة نقص الأدوية والرعاية الصحية.

وفي لبنان، نجت بعض القرى المسيحية تمامًا من القتال، بينما دُمِّرَت أخرى بشكلٍ جزئيٍّ على طول الحدود الجنوبية للبلاد. وشُرِّد عشرات آلاف الناس، بمن فيهم مسيحيون كثيرون. وهم يسعون الآن إلى إعادة بناء حياتهم ويأملون استمرار الهدنة الهشّة. وبذلك يُحَرَّرون أخيرًا من هذه الحلقة المُفرغة من هجمات حزب الله والضربات المضادة الإسرائيلية.

وللمرة الأولى منذ أكثر من عقد في سوريا، لم تعد العائلات المسيحية تخشى على أبنائها المرغمين على القتال والموت جنودًا لنظام الأسد. ولكنّ فرحة التحرّر وانتهاء الحرب لم تكتمل بعد... إذ يضمحلّ الفرج في ظلّ مخاوف من التطرف والتعصب في السلطة. وزادت بعض الحوادث -التي قد تبدو للغرباء بسيطة نسبيًّا- خوف المسيحيّين، مثل إحراق شجرة الميلاد جزئيًّا في إحدى المدن، ووضع ملصقات إسلامية تدعو النساء إلى ارتداء ملابس محتشمة في حيّ مسيحي في دمشق. وتُدرك هذه المجتمعات جيّدًا بناءً على تجارب مريرة سابقة كيف تسوء الأمور عادةً ويتسارع تطوُّر الأحداث.

وفي هذه الأماكن الثلاثة، أدّت الحرب وانعدام الأمن على مدار سنوات عدة إلى هجرة عائلات مسيحية كثيرة. ويبدو التحليل سابقًا لأوانه لتلمّس إمكان استمرار الترتيبات والتفاهمات الهشة والمُعَقَّدة. أمّا المرحلة الأصعب اليوم فتكمن في إعادة بناء ما هُدِّمَ، بينما يتشتّت اهتمام الناس عمومًا، والمسيحيين خصوصًا، بسهولة شديدة. فقد حُسِمَ الوقت الآن للتضامن، ليس من أجل الحفاظ على ما بُنِيَ فحسب، بل لاستعادة البناء. وهذه الخطوة تتجلّى في أمورٍ عدة، سواء على مستوى إعادة بناء المجتمعات بشكلٍ مادي، أم إرساء روابط جديدة مع المسيحيين السوريين المعزولين بسبب العقوبات المُخَفَّفة الآن، أم حجز رحلة حجّ إلى الأراضي المقدسة، وهو أمرٌ بسيط.

ووفقًا لما كتبه البابا فرنسيس في رسالته البابوية العامة لإطلاق سنة اليوبيل 2025، نحن «حُجّاج الرجاء». وهذا الرجاء لا ينضب، فهو مصدر إلهام لنا ولمسيحيي الشرق، «لنعرف الاستقرار والأمن على الرغم من أمواج الحياة الهائجة، شرط تسليم ذواتنا ليسوع المسيح».

تُرجِمَ هذا المقال عن السجلّ الوطني الكاثوليكي، شريك إخباري لـ«آسي مينا» باللغة الإنجليزية، ونُشِر هنا بتصرّف.

رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!

تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته