اليوم يبكي مسيحيّو غزّة مرّتَين!

لقطاتٌ متفرّقة تجسِّد يوميّات مسيحيّي غزّة ومعاناتهم في خلال الحرب لقطاتٌ متفرّقة تجسِّد يوميّات مسيحيّي غزّة ومعاناتهم في خلال الحرب | مصدر الصورة: البطريركيّة اللاتينيّة-القدس/رعيّة العائلة المقدّسة للاتين-غزّة/كنيسة القدّيس برفيريوس-غزّة

470 يومًا من العنف والركام في غزة. 470 يومًا من حرب أنهاها اتّفاق دخل حيّز التنفيذ أمس. 470 يومًا من صمود مسيحيّي القطاع على قلّتهم وضيق مطارحهم بعدما نالوا نصيبهم من بشاعة المعارك ودفعوا ثمنًا باهظًا.

470 يومًا لم تقفل في خلالها كنيستا غزّة الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة أبوابهما لحظةً واحدة. كانت كنيسة العائلة المقدّسة للاتين ملجأً لمن تبقّى من مسيحيّي القطاع؛ ومثلها كنيسة القدّيس برفيريوس وإن بزخم أقلّ بعدما غدت ضحيّة الاستهداف الأعنف لمسيحيّي القطاع. 470 يومًا لم تتوقّف في خلالها القداديس والصلوات حتّى على ضوء القناديل والشموع، ولم ينقطع عن أبناء الرجاء القربان المقدّس  بعدما صنعوه بأنفسهم.

اليوم يتنفّس مسيحيّو غزة. يخرجون إلى باحات كنيسة العائلة المقدّسة بلا خوفٍ من قصف أو رصاص أو شظيّة. يواصلون الترنيم لكن هذه المرّة بلا دويّ القصف على مقربةٍ منهم. تعود إليهم بدهيّات العيش من غذاء وماء وكهرباء بعدما فقدوا جلّها لولا تدخّل البطريركيّة اللاتينيّة-القدس ومؤسّسات كنسيّة محلّية ودوليّة لتوفير مقوّمات الصمود لبضع مئات منهم. قلّة صريحة قضى منها في الحرب عشراتٌ سواء باستهدافٍ مباشر أم بسبب فقدان الطبابة والعلاج.

أطول ممّا ظنّوا كان درب آلام مسيحيّي غزة هذه المرّة. تبعاتٌ جسديّة ونفسيّة واقتصاديّة لحربٍ اندلعت شرارتها في ذاك السابع من أكتوبر/تشرين الأول (2023)، وامتدّت أكثر من 15 شهرًا تخلّلها عيدا ميلاد وعيدُ قيامةٍ تحت القصف. وإن كانوا تحت وابل النار، لم يبقَ مسيحيّو غزة وحدهم أسرى الحزن والغمّ. عمّت مشاعر الأسى نفوس جميع مسيحيّي الأراضي المقدّسة طوال مدّة المعارك، فغابت عنهم مظاهر الاحتفال بعيد ميلاد يسوع المسيح في موطنه، وتراجعت حركة الحجّ المسيحيّ إلى أقدس المواقع في العالم.

اليوم، سيفتقد مسيحيّو غزة صوت البابا فرنسيس الذي ما قطع الاتصال بهم في خضمّ الحرب، مطمئنًّا ومبارِكًا. سيشتاقون إلى منشورات الأب يوسف أسعد نائب كاهن رعيّة العائلة المقدّسة والذي حملت صفحته إجابةً يوميّة لكلّ سائل عن حال المسيحيّين هناك.

اليوم، يبكي هؤلاء مرّتَين: فرحًا على انفراج همّهم ولو جزئيًّا، وحزنًا على من رحل ضحيّة الحرب العبثيّة. يحتفلون مع جيران الحيّ الذين أصبحوا جيران الملجأ الوحيد، الكنيسة. يتذكّرون بغُصّةٍ لارا، وهاني، وهيثم، ويارا، وفيولا، وعبد النور، وطارق، وليزا، وسهيل، ومجد، وجولي، وإلين، ومروان، وناهد، وسليمان، وسناء، وعلياء، وعيسى، وجولييت، وجورج، وإلهام، وناهدة، وسمر، وغيرهم من مسيحيّين أصبحوا أرقامًا وصورًا في قوائمَ تضمّ عشرات الآلاف.

اليوم، يستعيد هؤلاء لحظاتِ رجاءٍ وفرح اخترقت عتمة أيّامهم. يستعيدون صور معموديّة جماعيّة وسط الحرب. يستعيدون صور منح أطفالٍ المناولة المقدّسة الأولى في قلب الدمار. يستعيدون شذرات أملٍ حملها إليهم بطريرك القدس للاتين بييرباتيستا بيتسابالا يوم تمكّن من دخول مدينتهم وكنيستهم في زيارة استثنائيّة.

اليوم، يعانق هؤلاء راعيهم اللاتينيّ الأب جبرائيل رومانيلّي الذي بقي عالقًا خارج القطاع قبل عودته إلى قدّاسه اليوميّ آمنًا. يعانقون راهبات الأمّ تريزا مرسَلات المحبّة اللواتي رفضنَ مغادرة غزة، فحفظت العيون القريبة والبعيدة وجوههنّ في كلّ قدّاس. يعانقون الضوء إذ لن تقتلهم الشمس كما قتلت لارا. يعانقون الهواء إذ لن يخشوا الموت قنصًا كحال ناهدة وسمر. يعانقون حاملي الأدوية لأمراضهم كي لا يصبحوا ضحيّة نقصها كما كان هاني وهيثم.

اليوم، يختبر مسيحيّو غزة قيامةً مجيدة على غرار مخلّصهم. يعود ترابُ من دُفِن منهم في مقابر إسلاميّة إلى مهده. يزيحون الصليب عن أكتافهم موقّتًا ليقينهم بأنّ آلامَهم قدرُهم، تستكين ولا تنتهي إلى أبد الدهور.

رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!

تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته