لبنان ينتخب رئيسه بأكثريّة مسيحيّة صريحة... عهدٌ جديد يطوي الأزمات؟

مجلس النوّاب اللبنانيّ ينتخب قائد الجيش العماد جوزاف عون رئيسًا للجمهوريّة مجلس النوّاب اللبنانيّ ينتخب قائد الجيش العماد جوزاف عون رئيسًا للجمهوريّة | مصدر الصورة: Carlos Braga-Pinterest/قيادة الجيش-مديريّة التوجيه

9 يناير/كانون الثاني 2025، تاريخٌ ستحفظه الذاكرة اللبنانيّة جيّدًا إذ أنهى فراغًا رئاسيًّا دام أكثر من سنتَين وشهرَين. اليوم، بأكثريّة مسيحيّة شابَها انقسام، انتخب لبنان رئيسه (المارونيّ) الجديد. في جلسة بقيت ضبابيّة حتى اللحظات الأخيرة، صوّت مجلس النواب في دورةٍ ثانية بأكثريّة 99 نائبًا من أصل 128 لقائد الجيش العماد جوزاف عون ليصبح بذلك الرئيس الرابع عشر للجمهورية اللبنانية.

اتّجهت أنظار العالم ظهر اليوم إلى ساحة النجمة في وسط بيروت، حيث مقرّ البرلمان اللبناني. جلسة خُصَّصت لانتخاب رئيس جديد بعد سلسلة مساعٍ ومبادراتٍ عربيّة ودوليّة لإنهاء فراغٍ فاقم أزمات البلاد وعطّل عمل مؤسّساتها وأدخلها في متاهة صلاحيّات حكومة تصريف الأعمال.

انطلقت الجلسة الصاخبة بكلماتٍ معترِضة على انتخاب جوزاف عون باعتباره «مخالفة دستوريّة كونه موظفًا من الفئة الأولى وآلية تعديله تتطلب أصلًا وجود رئيس». وانتهت دورتها الأولى بعدم حصد عون ثلثَي الأصوات لتُرفَع الجلسة ساعتَين وتُعقَد بعدها الدورة الثانية التي أثمرت ولادة رئيس جديد للبنان. ولادة شهدت عليها حضوريًّا شخصيات عربيّة وعالميّة رفيعة تقدّمها السفير البابويّ في لبنان المطران باولو بورجيا.

وقد نال عون تأييد الكتلة المسيحية الأكبر في البرلمان (كتلة الجمهورية القويّة التي تضمّ نوّاب حزب القوات اللبنانيّة) وحلفائها المسيحيّين في المعارضة (من حزب الكتائب والمستقلّين). فيما لم ينل الرئيس الجديد أصوات الكتلة المسيحيّة الثانية عدديًّا (تكتّل لبنان القوي الذي يضمّ نواب التيار الوطني الحرّ، حليف حزب الله) بعدما أكّد نوّابها اعتراضهم على اسم قائد الجيش تحت ذريعة دستوريّة.

خطاب القسم واليمين الدستوريّة

ما مضت دقائق على إعلان فوزه حتّى وصل الرئيس الجديد إلى مقرّ مجلس النوّاب ليتلو خطاب القسم ويؤدّي اليمين الدستوريّة. وقال عون في خطابه: «لبنان بقي على الرغم من الحروب والتفجيرات والأطماع وسوء إدارة أزماتنا لأنّه من عمر التاريخ ولأنّ الشعب واحد وهويتنا لبنانية». وأكّد أنّنا «في أزمة حكم تقتضي منّا تغيير أدائنا السياسي». وختم: «عهدي الى اللبنانيين اليوم أن تبدأ مرحلة جديدة من تاريخ لبنان».

ليس الرئيس جوزاف عون طارئًا على المشهد السياسي اللبناني، ولا يشكّل اسمه مفاجأةً للداخل والخارج. فمنذ انطلاق المساعي الجدّية لسدّ الشغور الرئاسي، تصدّر اسم قائد الجيش قائمة المرّشحين لحمل الشعلة خلفًا لقائد جيش آخر وحامل الشهرة نفسها، العماد ميشال عون. ويحظى الجيش اللبنانيّ وقائده باحترامٍ وتقديرٍ كبيرَين في الشارع اللبنانيّ عمومًا والمسيحيّ خصوصًا، إذ لا يخلو بيتٌ تقريبًا في مختلف بقاع البلاد من عنصرٍ ملتحقٍ بالمؤسّسة العسكريّة.

الراعي يستقبل عون في بكركي في يناير/كانون الثاني 2024. مصدر الصورة: البطريركيّة المارونيّة
الراعي يستقبل عون في بكركي في يناير/كانون الثاني 2024. مصدر الصورة: البطريركيّة المارونيّة

صرخات بكركي تُثمِر

إذا كان الانقسام المسيحيّ هو سيّد المشهد الرئاسي، فإنّ للكنيسة رأيًا آخر. منذ اللحظة الأولى للشغور، لم يتوقف البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي عن المطالبة بانتخاب رئيس جديد للجمهورية والدعوة إلى انعقاد المجلس واحترام الدستور. وصبّ موقف الراعي الحازم في رفض العبث بالموقع المسيحيّ الأول في البلاد. وإن غاب عن الصرح تأييدٌ لاسم على حساب آخر، لم تبرز مؤشّرات اعتراض على اسم جوزاف عون. بدا همّ بكركي الأساس إنهاء الفراغ من خلال رئيس يحمي سيادة لبنان ويكون «على مستوى الأوضاع الداخلية والإقليميّة المضطربة، ليقود البلد إلى العمل معًا على حسن مقاربتها بحكمة وروح سلاميّ وحلول موضوعيّة»، كما أكّد الراعي في عظة قدّاس الظهور الإلهيّ (الغطاس) يوم الاثنين الماضي.

وقبل انتخابه رئيسًا للجمهوريّة، أحدثَ التمديد للعماد عون في قيادة الجيش (بعد انتهاء ولايته) زوبعةً في الساحة المسيحيّة، فهبّت بكركي مجدّدًا للدفاع عن هذا الموقع المارونيّ ورفض إسقاط القائد. وقال الراعي يومها: «من المعيب حقًّا أن نسمع كلامًا عن إسقاط قائد الجيش في أدقّ مرحلة من حياة لبنان وأمنه واستقراره وتعاطيه مع الدول».

 كنيسة بلدته تحتفل

فور إعلان انتخابه رئيسًا للجمهوريّة، عمّت الاحتفالات بلدة العيشيّة المارونيّة (قضاء جزين، جنوبيّ لبنان)، موطِن العماد جوزاف عون. ورُفِعت شاشة عملاقة في داخل كنيسة السيّدة ليتمكّن الأهالي من متابعة مجريات جلسة انتخاب ابن بلدتهم رئيسًا. كما غصّت ساحات البلدة وشوارعها بصورٍ للرئيس الجديد حملت عبارات الفخر والتهنئة.

هي نفسها البلدة المغمورة بفرح عارم اليوم، عاشت أشهرًا من القلق على إيقاع دويّ الحرب بين «حزب الله» وإسرائيل، بسبب قربها النسبيّ من الحدود ومجاورتها قرى شيعيّة تعرّضت للقصف والتدمير. وعدَّ كثيرون وصول العماد جوزاف عون إلى سدّة الرئاسة هديّة وإنصافًا لمسيحيّي الجنوب الذين صمدوا على مدى عقود أمام حروب متعاقبة فُرِضت عليهم فهجّرتهم ودمّرت بيوتهم وأرزاقهم وزرعت في يوميّاتهم الخوف والأرق.

الرئيس اللبنانيّ الجديد العماد جوزاف عون. مصدر الصورة: قيادة الجيش-مديريّة التوجيه
الرئيس اللبنانيّ الجديد العماد جوزاف عون. مصدر الصورة: قيادة الجيش-مديريّة التوجيه

من هو الرئيس اللبنانيّ الجديد؟

جوزاف عون هو الاسم الرابع عشر في تاريخ رئاسة الجمهوريّة اللبنانية منذ نيل البلاد استقلالها عام 1943. وُلِد ابن بلدة العيشيّة الجنوبيّة عام 1964، وتطوّع في الجيش بصفة تلميذ ضابط والتحق بالكلّية الحربية عام 1983. وبعد سلسلةِ ترقيات آخرها رتبة عماد، عُيِّن قائدًا للجيش في 8 مارس/آذار 2017. لم تمضِ أشهر قليلة على تسلّمه قيادة القوات العسكريّة في البلاد حتى وقعت معارك ضارية مع مجموعاتٍ إرهابيّة في جرود البقاع اللبناني على الحدود مع سوريا، فخاضها بقوّةٍ محقِّقًا أحد أبرز الانتصارات في مسيرته العسكريّة.

المزيد

على الصعيدَين السياسي والدبلوماسي، تربط عون علاقات جيّدة بدول القرار الغربيّة وتحديدًا الولايات المتحدة الأميركية. وقد زارها في غير مناسبة محصِّلًا مساعداتٍ للجيش اللبناني.

على المستوى العائلي، الرئيس الجديد متأهّل من نعمت نعمه التي أصبحت السيّدة الأولى لقصر بعبدا (قصر الجمهوريّة اللبنانية)، ولديهما ولدان خليل ونور.

أمّا روحانيًّا، وعلى الرغم من إبقاء الجيش اللبناني بعيدًا تمام البُعد من أيّ صبغةٍ طائفيّة، لا يغيب عون عن القداديس في المناسبات الدينيّة الرسميّة في البلاد. ويتصدّر مشهد الصفوف الأمامية في داخل الكنائس بلباسه العسكريّ.

رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!

تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته