لبنان ينزف... يوميّات ساحات مسيحيّة ترفض الحرب

يوميّات طبيعيّة مشوبة بحذر في قضاء كسروان المارونيّ رغم استهداف إحدى قراه يوميّات طبيعيّة مشوبة بحذر في قضاء كسروان المارونيّ رغم استهداف إحدى قراه | مصدر الصورة: Bassem jammoul/Shutterstock

«لا للحرب»... موقف مسيحيّ لم يتغيّر منذ اندلاع الاشتباكات بين حزب الله وإسرائيل في لبنان. اليوم، ومع دخول أجزاء واسعة من البلاد دائرة التصعيد العسكريّ، يحاول المسيحيون الصمود على إيقاع ملامح حقبة جديدة من الدمار والخوف والتهجير.

تتسع رقعة المواجهات بين حزب الله وإسرائيل. ففيما بدأت الصواريخ المنطلقة من لبنان تبلغ مديات أبعد وأعمق، يتركّز القصف الإسرائيلي على مثلّث متباعد جغرافيًّا ولا يجمع أقضيته سوى أنّها في غالبيتها «بيئة تابعة» لحزب الله: الجنوب والبقاع (الغربي والأوسط) والضاحية الجنوبية لبيروت.

حتى الساعة، وفي ظلّ عدم اكتساب التصعيد غير المسبوق منذ العام 2006 صفة «الحرب الشاملة»، تبقى البلدات المسيحيّة بعيدةً عن القصف المباشر وإن كان لها من شظاياه نصيب. شظايا تدفع إلى طرح السؤال الأبرز في سياقٍ ألفه اللبنانيون منذ العام 1975: كيف تبدو يوميّات الساحات المسيحية في ظلّ تدحرج كرة المواجهات؟

تزرع الوتيرة الميدانيّة المتسارعة في نفوس المسيحيين خوفًا من سقوط مبادرات وقف النار وتفلّت الميدان. وتتجلّى هذه الهواجس في جملة عناصر ومشهديات تنعكس في يوميّاتهم التي تخترقها أصوات غاراتٍ مجاورة وتحليق الطائرات الحربيّة في سماء مناطقهم.

استهداف جوار بلدات مسيحيّة

أوّلًا، في تطوّر يحمل أبعادًا جيوسياسيّة واضحة، استهدف الطيران الإسرائيلي ظهر الأربعاء للمرة الأولى عمق قضاء كسروان (جبل لبنان). ويُعرَف عن هذا القضاء بأنّه قلب المسيحيين النابض إذ يضمّ غالبيّة موارنة لبنان، وهناك تقع البطريركيّة المارونيّة (بكركي) ومزار سيّدة لبنان (حريصا).

ولكنّ هذا القضاء يضمّ أيضًا قرى معدودة ذات غالبيّة مسلمة (شيعية) من بينها المعيصرة. هذه البلدة البعيدة عن العاصمة بيروت قرابة 38 كيلومترًا كانت هدفًا مباشرًا لغارةٍ استهدفت قياديًّا في حزب الله.

وفي هذا السياق، تقول راكيل، مواطِنة من سكّان ساحل كسروان وعاملة في إحدى مدارسها الكاثوليكية لـ«آسي مينا»: «نحاول أن نعيش حياة طبيعية بقدر ما استطعنا لكنّ الخوف يتآكلنا. لم تعد هناك أي منطقة آمنة بعد قصف جوارنا (المعيصرة). نريد حياة طبيعية. نريد عودة أطفالنا إلى مدارسهم. نصلّي كي يخلّصنا الله من هذا الجنون».

لم تمضِ ساعات قبل أن يُستهدَف محيط بلدة رأس أسطا على طريق عنايا (قضاء جبيل). ورمزيّة المكان أنّه الطريق المؤدّي إلى دير مار مارون عنايا حيث ضريح القديس شربل. تردّد دويّ القصف في القرى المسيحيّة المجاورة ووصل صداه إلى الدير الشهير.

لسان حال سكّان عنّايا واحد: «لا نخاف. مار شربل هنا معنا. قصفُ بلدة على طريق ضريحه لن يمنع زوّاره المعتادين من التوجّه إلى الدير للصلاة. صلواتنا لن تتوقف. لبنان بحماية قدّيسه»، يقولون عبر «آسي مينا». والمعروف عن قضاء جبيل أنّه يضمّ بلدات عدّة مختلطة طائفيًّا.

مشهديات دمار متنقّلة بين جنوب لبنان وبقاعه وضاحية بيروت الجنوبيّة. مصدر الصورة: الأمم المتّحدة
مشهديات دمار متنقّلة بين جنوب لبنان وبقاعه وضاحية بيروت الجنوبيّة. مصدر الصورة: الأمم المتّحدة

90 ألف نازح إلى مناطق آمنة

ثانيًا، عجّت المدن والبلدات المسيحية في مختلف أرجاء لبنان بنازحين وافدين إليها تحديدًا من قرى الجنوب الواقعة تحت القصف، وبلغت أعدادهم أكثر من 90 ألف نازح بحسب منظمة الهجرة العالميّة. ففُتحت لهم بيوت الإيجار والمدارس الرسميّة والفنادق. ذاك النزوح الكثيف من القرى الشيعيّة رافقه نزوح من تبقّى من مسيحيّي بلدات الحدود التي غادرها معظم سكّانها قبل التصعيد العسكريّ الأخير.

وفي هذا الإطار، برز نداء للبطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي شكر فيه «كلّ الذين يستقبلون أهلنا المنكوبين في بيوتهم في المناطق الآمنة»، مشدّدًا في الوقت عينه على «ضرورة وقف النار فورًا، تجنّبًا لمزيد من الضحايا والجرحى والمشرّدين من دون مأوى».

علمًا أنّ المدارس الكاثوليكية لم تفتح أبوابها أمام النازحين، معلنةً في بيان «معاودة محتملة للدروس انطلاقًا من يوم الاثنين 30 سبتمبر/أيلول الجاري إمّا حضوريًّا أو افتراضيًّا أو بشكل مدمج» تبعًا لظروف كلّ مدرسة في نطاقها الجغرافي.

انتقال ظرفيّ من العاصمة

ثالثًا، تختبر بيروت وضواحيها حركة انتقالٍ محدودة لعددٍ من العائلات المسيحيّة إلى بيوتها الصيفيّة في الأرياف، لاقتناع كثيرين بضرورة الابتعاد عن العاصمة ومرافقها الحيويّة وضاحيتها الجنوبية. ومع ذلك، يبقى هذا التحرّك في إطار الخطوات الاحترازية غير المضمونة خصوصًا مع اتساع النطاق الجغرافي للغارات.

المزيد

وفي هذا المضمار، يخشى هؤلاء تكرار سيناريو قصف الجسور والطرق الحيوية التي تصل الأقضية بعضها ببعض، وهو ما سيصعّب عليهم القدرة على الانتقال من بيروت إلى المتن وكسروان والشمال.

علمًا أنّ كثيرين منهم عايشوا هذا السيناريو في خلال حرب يوليو/تموز 2006 يوم عجزوا عن مغادرة بيوتهم في ظلّ تقطيع الأوصال وخشية الموت على الطرق.

مشهدان من المطار والأسواق

رابعًا، تزيد مشهديّة قاعات المغادرة الممتلئة وقاعات الوصول الفارغة في مطار بيروت الدولي الأمر تعقيدًا. تلك المشهدية مقرونةً بنفاد معظم الحجوزات على الطائرات -التي ما زالت تسيّر رحلات من بيروت- تعزّز الهواجس، وتقطع آخر حبل أمل أمام بعض المسيحيين بإمكان المغادرة في حال اندلاع الحرب الواسعة. وفي بحث بسيط عن الرحلات المسيَّرة من بيروت يتّضح أنّها جميعها محجوزة حتى قرابة منتصف أكتوبر/تشرين الأول المقبل من دون شواغر.

حركة سير طبيعيّة ومحال تجاريّة تفتح أبوابها على أوتوستراد جونيه (كسروان) باتّجاه الشمال اليوم. مصدر الصورة: آسي مينا
حركة سير طبيعيّة ومحال تجاريّة تفتح أبوابها على أوتوستراد جونيه (كسروان) باتّجاه الشمال اليوم. مصدر الصورة: آسي مينا

خامسًا وأخيرًا، تشهد المحالّ التجاريّة والصيدليات في جميع المناطق المسيحية تهافتًا من أجل التزوّد بالمواد الغذائيّة في حال وقوع السيناريو الأعظم وحلول شبح الشحّ واستغلال التجّار من خلال «سياسة التخزين» لرفع الأسعار في بلدٍ اقتصاده متهالك. جولة بسيطة في اليومَين الماضيَين على أبرز المحال كفيلة بإظهار المخاوف، إذ تفرغ الرفوف يوميًّا من بعض المواد الرئيسة كالخبز.

ليست حال محطّات الوقود مختلفة. يقول صاحب إحدى المحطات في بلدة سنّ الفيل (المتن) التي تصل بيروت بقضاءَي المتن وكسروان وصولًا إلى الشمال لـ«آسي مينا»: «نشهد في الأيام الثلاثة الماضية تهافتًا على شراء مادّة البنزين وحتّى مادة المازوت كوننا على أبواب الشتاء ويخشى كثيرون أن يعلقوا في بيوتهم في المتن الأوسط والمتن الأعلى من دون تدفئة في حال اندلاع الحرب». ويؤكّد أنّ «هناك مخزونًا كافيًا ولكنّ خوف اللبنانيين يدفعهم في كلّ مرة إلى التزوّد المفرط خشية انقطاعه أو احتكاره».

(تستمر القصة أدناه)

وسط هذه المشهديات المؤرقة التي يعيشها اللبنانيون عمومًا والمسيحيون خصوصًا، تلمح عيون المتجوّلين في بعض مناطق بيروت، ومعظم مناطق كسروان وجبيل (جبل لبنان) والبترون (الشمال) تناقضات قليلًا ما تنقلها عدسات الإعلام الغربيّ.

حركة طبيعيّة في معظم هذه المدن والبلدات ذات الغالبية المسيحية؛ مطاعم غير فارغة من روّادها، وحركة سير اعتياديّة وزحمة في أوقات الذروة، ومحال تجاريّة تفتح أبوابها. لا تفارق أحاديث الحرب ألسنة السكّان، ولكنّها في المقابل لا تشلّ أشغالهم. بكثير من الحذر ينتظرون مفاعيل المبادرات الدولية للتهدئة، ولسان حالهم يقول: «كفانا موتًا ودمارًا وتهجيرًا»!

رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!

تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته