يتفهّم الربّ يسوع احتياجاتنا ورغباتنا وكلّ ما نريده، فكيف لا نلمس تأكيد يسوع أنَّه يسمعنا نطرق الباب ويرانا ونحن نبحث عنه؟ لا نجد هذه الآيات في مكان واحد في الكتاب المقدّس، إنّما في كلّ صفحة منه.
ففي إنجيل القديس يوحنّا مثلًا يقول لنا: «مهما سألتم باسمي فذلك أفعله». ثمَّ يؤكّد ذلك مرّة أخرى: «إن سألتم شيئًا باسمي فإنِّي أفعله» (يو 14: 13- 14)، وأيضًا: «إن ثبتُّم فيَّ وثبتَ كلامي فيكم، تطلبون ما تريدون فيكون لكم» (يو 15: 7).
يُظهِر لنا يسوع في هذه الآيات كم هو متشوّق أن نسأله عمّا نرغب به ونتمنَّاه في قلوبنا: «إلى الآن لم تطلبوا شيئًا باسمي. اطلبوا تأخذوا، ليكون فرحكم كاملًا» (يو 16: 24). هذه الكلمات فاه بها يسوع لتقوّي إيماننا وتجعله منبعًا للفرح والرجاء والثقة الكاملة بوعوده الإلهية.
يعبّر آباؤنا السريان عن الرغبة العميقة والصادقة لدى المؤمنين بقرع باب الربّ وهم ممتلئون ثقةً باستجابته طلباتهم: «باب مَن نقصدُ ونقرع غيرَ بابك يا ربّنا الحنون. فمَن لنا ليشفع بجهلنا غيرُ مراحمك، أيّها الملك الذي يسجد الملوك إكرامًا له».
4. اسألوا... اطلبوا... اقرعوا
هي درجات الإصرار واللجاجة في الصلاة: فدرجة «اقرعوا» هي أعلى درجة، هي درجة الصراخ لله ليفتح لنا. والعجيب أنَّ الله صوَّر نفسه هكذا صارخًا أو قارعًا لنفتح له قلوبنا: «هأنذا واقفٌ على الباب أقرعه، فإن سمع أحدٌ صوتي وفتح الباب، دخلتُ إليه وتعشَّيتُ معه وتعشّى معي» (رؤ 3: 20). فإن كان المسيح يقرع هكذا على أبواب قلوبنا، أفلا نثابر ونقرع ونصلّي إليه بإلحاح! الله نفسه يدعونا أن نطلب، ولأنَّه «الخير المُطلَق» يودّ أن يمنح خيراته وعطاياه للمؤمنين به وبقدرته ومحبّته الفائقة الوصف.
يقول القدّيس أوغسطينوس: «لكي تفهم ما يُقصَد بالسؤال والطلب والقرع، نفترض وجود رجل أعرج. فمثلُ هذا يُعطَى أولًا الشفاء، أي القدرة على المشي... وهذا ما قصده الربّ بالسؤال. ولكن ماذا ينتفع بالمشي أو حتّى بالجري إن استخدمه في طريق منحرف؟ لذلك فالخطوة التالية هي أن يجد الطريق المؤدّي إلى الموضع المطلوب... وهذا ما قصده بالطلب. لكن ما المنفعة إن صار قادرًا على المشي وعرف الطريق، بينما كان الباب مغلقًا... لهذا يقول: اقرعوا».
فإن كان من لا يرغب في العطاء (مَثَلُ القاضي الظالم في إنجيل القديس لوقا 18: 1-8)، قد أعطى بسبب اللجاجة، فكم بالأكثر يعطي ربّنا الصالح الذي يحثّنا على الطلب منه؟! قد يُبطِئ الله في الاستجابة والعطاء لكي نُقدِّر قيمة الأشياء الصالحة، وليس لعدم رغبته بذلك. فما نشتاق إلى نيله بجهد ومثابرة، نفرح جدًّا عندما نحصل عليه، أمَّا ما نناله سريعًا فنحسبه شيئًا زهيدًا.
بحسب العادة، يطلب المحتاج ممَّن يقدر على مساعدته، فإذا كان القادر مُحِبًّا للعطاء، فإنَّه يعطيه بسرور وبلا تردُّد. أمَّا ما يفوق ذلك، فهو أن يسعى القادر نحو المحتاج داعيًا إيَّاه أن يطلب وبلا حدود، واعدًا إيَّاه بأنَّه مهما سأل سيأخذ وينال! فهكذا أحبَّ الله العالم، حتَّى إنّه على أتمّ الاستعداد لأن يعطي وبلا حدود -إلى درجة أنَّه بذل ابنه الوحيد- لأجل خلاصنا (راجع يو 3: 16). إنّه عطاء المحبَّة الذي يفوق كلَّ توقُّعات المحتاج الذي يطلب ويسأل.
5. اللُّحمة بين الصلاة والصوم والتوبة وأعمال الرحمة
الله يريد منّا أن نطلب الأشياء التي لا تفنى، لا تلك الفانية. يريد منّا أن نبتغي محبَّته كي تعمل فينا بقوَّة، فتزداد معرفته في عقولنا ومحبّته في قلوبنا، لنحظى بميراث الملكوت الأبدي. يريد منّا أن نطلب القوَّة والمعونة لنغلب الشرّ والخطيئة، وأن نطلب الامتلاء بالروح القدس طوال مسيرتنا على هذه الأرض، فتفيض فينا مواهبه وعطاياه لمنفعة ذواتنا وإخوتنا. والربّ يسوع نفسه يؤكِّد حصولنا على هذه المواهب عندما نسأل أو نطلب من الآب باسمه، أو منه هو مباشرةً، أو من الروح القدس باسمه.
(تستمر القصة أدناه)
اشترك في نشرتنا الإخبارية
وهكذا ندرك أهمّية الصلاة في حياتنا، فهي تقوّي علاقتنا بالله، وتزيّننا بالفضائل، وتعزّز خدمتنا لأجل ملكوت الله، كما توطّد علاقاتنا بإخوتنا وأخواتنا، وتؤول إلى بنيان الكنيسة. فالصلاة ليست فروضًا نؤدّيها بلا روح ولا عاطفة، بل هي مناجاة الأبناء إلى أبيهم السماوي، مصدرِ الخير والبركة، وهي نموٌّ مستمرٌّ في محبّته واغتناءٌ من روحه القدوس.
وها هو القديس مار أفرام السرياني، ملفان الكنيسة الجامعة، يؤكّد خصائص الصلاة المقبولة لدى الله: «فليكن فمك مجمرة (مبخرة) ولتكن شفتاك رائحة ذكية (بخورًا)، وليكن لسانك شمّاسًا، فيرضي الألوهة». هذا ما علينا أن نعيشه في زمن الصوم الكبير، فنعمل على تجديد علاقتنا بالله من خلال الصلاة والصوم وأعمال التوبة، وعلى تجديد علاقتنا بالقريب من خلال أعمال الخير والمحبَّة والرحمة.
فزمن الصوم هو زمن العمل. «وفي زمن الصوم الأربعيني، العمل هو أيضًا أن نتوقّف، لنصلّي، لنتقبَّل كلمة الله، ونتوقَّف مِثلَ السامري، أمام أخينا الجريح. محبّة الله ومحبّة القريب هي محبّة واحدة. نقف في حضرة الله ومع قريبنا»، على حدّ قول قداسة البابا فرنسيس في الرسالة عينها بمناسبة زمن الصوم 2024.
إنَّ الصلاة والصوم والصدقة ليست ثلاثة أعمال منفصلة، بل هي فعلٌ إيماني واحد. إنّها انفتاحٌ على الآخر، وتجرُّدٌ ممّا في داخلنا، للمثول أمامَ الله، وعيش الأخوّة مع الآخرين، أخوّة نابعة من إيماننا المسيحي، وليست مجرّدَ تضامنٍ بشري مع الإنسان المُهمَّش.
6. خاتمة
أيّها الأحبّاء، لِنَسْعَ في هذا الصوم ألا تكون توبتنا توبةً تُحزِن يسوع. فهو يقول لنا: «لا تُعبِّسوا كالمُرائين، فإنَّهم يُكلِّحون وجوههم، ليظهر للناس أنَّهم صائمون» (مت 6: 16). بل، ليرتسم الفرح على وجوهنا، وليَفُحْ منَّا عطر الحرّية، ولنُطلِق سراح الحبّ الذي يجعل كلّ شيء جديدًا، ولنبدأ بأصغر الأمور وأقربها.