والتفت الشاعر أيضًا فرأى القفر. وماذا عند القفر يُهديه إلى المسيح؟ قفر خاوٍ خالٍ! لكنّه استنبط شيئًا عظيمًا من شدّة فرحه بقدوم يسوع، استنبط مذودًا ليرتاح المسيح فيه كما هو مرتاح في أحضان الآب، فحوّل المسيحُ المذود إلى محلّ شريف، إلى عرش ملوكيّ اتّكأ فيه. وراح يَنعم بجمال السكنى بين البشر، وقد كان منذ الأزل صمّم، هو كلمةُ الله، أن يصيرَ جسدًا ويسكنَ في ما بيننا ويجعلَنا خاصّته لنشاهد مجده، مجدًا من الآب لابنه الوحيد الممتلىء نعمة وحقًّا، كان قد شاء منذ الأزل أن يأتي ويتردّد بيننا ويشفي جرحنا، كان قد دبّر منذ الأزل أن يولد من امرأة تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس وننال التبنّي.
ثمّ رفع الشاعر عينيه إلى السماء فإذا بها تنحني كما تنحني القوس، وإذا بنجم محمَّل بكلّ الأنوار ينهل منها ويأتي ويقف فوق المغارة حيث الطفل يسوع. وصرخ الشاعر: السماء تُهدي إلى يسوع كوكبًا لتدلّ عليه الناس الغافلين في تلك الليلة، القابعين في الظلمة وظلّ الموت، الغارقين في ملذّاتهم وشهواتهم، المختنقين بيأسهم وبؤسهم، المنهوشين بقلقهم وقرفهم. وإذا بالنجم ينادي بلغته الضوئيّة إنّه ههنا، إنّه ههنا ذاك الذي تكلّم عليه الأنبياء والملوك وأخبرت عنه الكتب وانتظرته الشعوب واشتاقت إلى رؤياه. إنّه ههنا، يسوعُ النور الذي يضيء في الظلمة ولا تدركه ظلمة، النورُ الحقيقيُّ الذي ينير كلّ إنسان. إنّه ههنا في المغارة، في المذود، في سكون الليل، متواضعًا مخفيًّا. وإذ الشاعر كذلك سمع صوتًا ينشد: «وُلدت أيّها المخلّص في مغارة خفيًّا إلاّ أنّ السماء أعلنتك وأرسلت كوكبًا ينبىء بميلادك».
وما إن انتهى النجم من خطابه حتّى أقبل رعاة مسرعين مستدلّين بنوره الساطع فوق المغارة، فدخلوا «فوجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعًا في المذود» فتعجّبوا وأيقنوا أنّ ما أخبرهم به الملاك كان صحيحًا، وترجّعت في آذانهم كلماته: «لا تخافوا فهأنذا أبشّركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب: اليوم في مدينة داود وُلد لكم مخلّص هو المسيح الربّ»، فأخبروا مريم ويوسف بها. إلاّ أنّهم من شدّة فرحهم نَسوا أن يحملوا ليسوع هديّة من قِطعانهم، غير أنّ يسوع اكتفى بما في قلبهم، اكتفى بتلك الدهشة التي اجتاحتهم وقادتهم إلى الإيمان به إلهًا مخلِّصًا حين رأوه «طفلًا ملفوفًا بقمط ومضجعًا في مذود»، هو الذي طالما أخبرتهم عنه كتبهم وانتظروا مجيئه وحلموا به ملكًا جبّارًا. وقبل أن يخرجوا قدّموا له الهديّة التي أهداها إليه الملائكة منذ قليل وأنشدوا: «المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة». ثمّ رجَعوا يبشّرون بما سمعوا وما رأوا.
إلاّ أنّهم ما كادوا يغادرون حتّى أقبلت قافلة مرّت بجانب الشاعر تترنّح من التعب كأنّها قادمة من بلاد بعيدة. وحدّق الشاعر ببصره فإذا الجِمال يقودها مجوسٌ ملوكٌ يحملون هدايا وعيونهم على النجم حتّى بلغوا إلى المغارة «ففرحوا فرحًا عظيمًا جدًّا، ودخلوا البيت فأبصروا الصبيّ مع مريم أمّه فخرّوا له، ثمّ فتحوا كنوزهم وقدّموا له هدايا من الذهب واللبان والمرّ». قدّموا له الهدايا من أثمنِ ما تُغِلّ بلاد فارس لأنّهم أيقنوا، وهم ملوك بلادهم وحكماؤها وعلماؤها، أنّ هذا الطفل الذي يرونه في مذود حقيرٍ وثيابٍ فقيرة هو ملك الملوك وربّ الأرباب، هو السيّد المطلق، قد بنى مُلكه على العدل والسلام والمساواة والحرّيّة والعطاء والخدمة والرحمة والغفران، مَلِكٌ ليس كهيرودسَ وأمثاله من أسياد الأرض ممّن يبنون سيادتهم على التسلّط والقهر والاستغلال والظلم والكذب... قدّم المجوس الهدايا ليسوع وسجدوا له متخلّين عن آلهتهم الصنميّة التي كانوا يعبدونها، وتخلّوا في الوقت عينه عمّا كان يستعبدهم من أهواء وميول وشهوات فاسدة وأفكار وعواطف شرّيرة. ولمّا خرجوا من المغارة وقفَلوا إلى بلادهم كانوا قد أصبحوا خليقة جديدة مملكتُهم ملكوت يسوع، فأنشدوا له: «أنت هو القيصر أنت الإله فاختِمنا باسم لاهوتك».
ووقف الشاعر حيران بعد إذ رأى الهدايا الثمينة التي قُدِّمت ليسوع وراح يتساءل ماذا عساه يقدّم هو، وراح يردّد ويردّد «ماذا نقدّم لك أيّها المسيح لأنّك ظهرتَ على الأرض إنسانًا لأجلنا؟». وحانت منه التفاتة إلى داخل المغارة فرأى مريم تضُمّ الطفل إلى صدرها تشبه عرشًا شيروبيميًّا فصرخ وقد وجد ضالّته: هي هي الهديّة. وهكذا اكتملت القصيدة وإذا به ينشد بصوت عال: «ماذا نقدّم لك أيّها المسيح لأنّك ظهرت على الأرض إنسانًا لأجلنا؟ فكلّ نوع من الخلائق التي أبدعتها يقدِّم لك شكرًا. فالملائكة التسبيح، والسماوات الكوكب، والمجوس الهدايا، والرعاة التعجّب، والأرض المغارة، والقفر المذود، وأمّا نحن فأمًّا بتولًا».
أجل هذه هي هديّتنا نحن البشرَ للسيّد المسيح: إنّها مريم العذراء، من جنسنا، من لحمنا ومن دمنا، إنّها تلك الفتاة التي نالت حظوة عند الله فاصطفاها من بين جميع النساء وملأها نعمة، الفتاة التي أتى عليها الروح القدس وظلّلتها قدرة العليّ، فحمَلت وولدت يسوع المسيح ابن الله الوحيدَ وصارت والدة الله، أمًّا وبتولًا معًا. إنّها الهديّة التي أتاحت بقولها للملاك «أنا أمة الربّ فليكن لي بحسب قولك» أن يصير الله إنسانًا ليصير الإنسان إلهًا. وهل من هديّة أعظمُ من هذه الهديّة؟ ولذا يحقّ لنا أن نفتخر بهديّتنا على سائر الخلائق وأن نفتخر بأنّها وبأنّنا نحن أغلى ما لديه.