«الإنجيل الخامس» كناية أُطلقت على الأراضي المقدسة لكونها الأرض التي لا تزال تحمل في طيّاتها مواقع ومعالم تروي ما حدث فيها لشعب الله منذ بداياته، كما أنها لا تزال كالكتاب المفتوح يروي تفاصيل ما عاشه السيد المسيح والجماعة المسيحية الأولى. فكثيرون من اللاهوتيين والكتابيين يؤكّدون أنّ من خلال معالم هذه البلاد وآثارها يمكن للمرء قراءة سائر الأناجيل بشكلٍ أكثر قربًا إلى القلب والعقل والواقع الإنساني، ولهذا دعيت «الإنجيل الخامس».
ومع هذا، يبدو أنّ كثيرًا من صفحات هذا الإنجيل الخامس لم تُقرأ بعد.
إحدى الصفحات الخفية لهذا الإنجيل الخامس ظهرت للعيان في أواخر القرن التاسع عشر مصادفةً بجوار أكثر الأماكن التي عاش فيها يسوع المسيح (ثلاثين عامًا) في حياته الأرضيّة، ألا وهي الناصرة.
بعد أكثر من 1800 سنة، وفي العام 1855 بالذات، وصلت رهبانية «راهبات الناصرة» من فرنسا كي تبدأ إرساليتها في الناصرة، فاشترت بعض الحوانيت القريبة من كنيستَي البشارة والقديس يوسف، حيث أرادت أن تقيم ديرًا ومدرسة لخدمة السكان المحليين.
في 18 أكتوبر/تشرين الأول 1884، وبينما كانت الراهبات يُجرين أعمال تنظيف، أراد أحد العمال الخروج من البئر التي كان ينظفها، فسقط حجرٌ إلى فراغ كبير. وما إن أنزل العُمّال مصباحًا تجلّى لهم مكان أثريّ في غاية الجمال. وبعد تنظيف المكان، وجدت الراهبات أحواضًا صغيرة محفورة في الأرض وأعمدة عُرف لاحقًا أنها تعود إلى الفترة البيزنطية، وحجارة فسيفساء مستعملة لتزيين الكنائس.
تابعت الرهبنة أعمال التنقيب في المكان على فترتَين بين الأعوام 1884 إلى 1940 و1940 إلى 1962 حيث اكتُشِفت مغارة ثانية مجاورة لتلك المكتشفة في بداية الأمر، وبعض بقايا مبنى يعود إلى الفترة الصليبية. لكنّ الأمر الأغرب هو أنّ مكان العبادة هذا يقع فوق القبر الذي يبدو وكأنّه النقطة الأهمّ في المكان، والذي بسببه شُيِّد مزار مقدّس، وعلى الأغلب قد يكون هو «قبر الصدّيق» المعروف لأهل المدينة.
لكن، وفي خلال عمليات التنقيب، اكتُشِف بيت قديم يعود إلى القرن الأول الميلادي وهو مجاور تمامًا للقبر، الأمر الذي قد يكون متناقضًا في ذاته. فبحسب التقليد اليهودي لا يمكن أن يُبنى بيت بجوار قبر، ولا يمكن أن يُدفن أحد بجوار بيت، فكيف ذلك؟! يتبيّن أنّ هذا الأمر ممكن في حالة واحدة وهي أن يكون القبر لأحد الصدّيقين حيث دُفِن بجوار بيته.
بناءً عليه، يمكن الربط بين ثلاث نقاط رئيسة: أولًا؛ البيت والقبر المكتشفان هناك يعودان إلى القرن الأول الميلادي وهما محاذيان لمكان بشارة العذراء ومنجرة القديس يوسف. ثانيًا: المسيحيون في الفترة البيزنطية والصليبية اهتموا بهذا المكان لدرجة بناء كنيسة هناك. ثالثًا: هذه الكنيسة كانت تدعى «كنيسة التغذية» والقبر الموجود فيها يُدعى قبر «الصدّيق».
يقود ذلك إلى استنتاج جوهريّ مفاده أنّ هذا المكان قد يكون مكان إقامة العائلة المقدسة آنذاك. وقد يكون مردّ تسمية «كنيسة التغذية» إلى أنّ الطفل الإلهي تغذّى هناك، وسبب تسمية المكان «قبر الصدّيق» نسبةً إلى قبر القديس يوسف؛ فهو الوحيد الذي من شأنه أن يُدفن بجوار بيته بحسب التقليد اليهودي إذ كان يُعدّ بارًّا وصدّيقًا في التقليد المسيحي-اليهودي.
وسط تساؤلات جمّة بلا إجابات قاطعة، يبقى الأكيد أنّ هذا المكان يحمل كثيرًا من الأسرار، وأنّ هذه الصفحة من الإنجيل الخامس ستبقى مفتوحة لكن غير مقروءة…
اكتشف علماء آثار بريطانيون يعملون بالتنقيب في مدينة الناصرة الفلسطينية، يرأسهم العالم كين دارك البريطاني، بيتًا يعود بناؤه إلى القرن الأوّل الميلادي، مُرجحين أنه المنزل الذي عاش فيه السيّد المسيح طفولته، مع أمه مريم العذراء والقديس يوسف البتول.
كشفت كنائس الأراضي المقدّسة النقاب عن فسيفساء وأنقاض معبدٍ وثني يعود إلى العام 132، أسفل القبر المقدّس من الجهة اليمنى، في خلال إجراء عمليّات ترميم لأرضيّة كنيسة القيامة المقدّسة.