أكّد البطريرك الماروني الكاردينال بشاره بطرس الراعي أنّ «من المعيب حقًّا أن نسمع كلامًا عن إسقاط قائد الجيش في أدقّ مرحلة من حياة لبنان وأمنه واستقراره وتعاطيه مع الدول». وتعليقًا على الحرب في الأراضي المقدّسة قال الراعي في خلال ترؤسه القداس الإلهي في الصرح البطريركي، بكركي: «الحلّ الوحيد الذي يجلب السلام إنّما هو قيام الدولتين بنتيجة المفاوضات والحوار الهادئ والمسؤول. لقد آن الأوان لإعطاء الفلسطينيّين حقّهم. إنّ كل الذين التقيناهم في روما عبّروا عن تخوّفهم من امتداد الحرب إلى لبنان».
وجاء في العظة ما يأتي:
«وأنتم من تقولون إنّي هو» (متى 16: 15)
1. عن هذا السؤال يجيب كلّ واحد وواحدة منّا، بلسان سمعان-بطرس: «أنت هو المسيح ابن الله الحيّ» (متى 16: 16). وهو جواب الكنيسة عبر الأجيال، وتقوله رسميًّا في هذا الأحد المعروف «بأحد تقديس البيعة»، ومعه تبدأ السنة الطقسيّة الجديدة. وهي سنة كاملة باثني عشر شهرًا، نحتفل في خلالها بالأحداث الخلاصيّة المرتبطة بحياة يسوع المسيح على أرضنا: تجسّده ودنحه وصومه وآلامه وموته وقيامته، وتأسيس كنيسته وأسرار الخلاص والكهنوت، وإرسال روحه القدّوس لتحقيق ثمار الفداء في النفوس، ولقيادة مسيرة الكنيسة حتى نهاية الأزمنة ومجيء المسيح الثاني ملكًا وديّانًا.
2. تُشبّه السنة الطقسيّة بالسنة الشمسيّة التي في خلال أشهرها الاثني عشر تدور الأرض حول الشمس في أربعة فصول، مستمدّة منها النور والحرارة والدفء بما يناسب الحياة على أرضها من بشر وحيوان ونبات. كذلك في السنة الطقسيّة بأزمنتها الثمانية: الميلاد، والدنح، والتذكارات، والصوم الكبير، وأسبوع الآلام، والقيامة، العنصرة، والصليب. «تدور» الكنيسة حول شمسها يسوع المسيح وتستمدّ منه نور الكلمة وقداسة النعمة وحرارة الإيمان وحيويّة المحبّة.
3. نحيي في هذا الأحد ذكرى عبور عزيزنا، محبّ الشبيبة، المرحوم المونسنيور توفيق بو هدير إلى بيت الآب في السماء منذ سنتين. فإنّا نصلّي لراحة نفسه ونستشفعه لدى العرش الإلهيّ، مجدّدين تعزية الرجاء لوالدته وشقيقيه وسائر أنسبائه.
نحيّي بيننا المؤسّسات الشبابيّة الثلاث التي أعطاها من سخاء قلبه تأسيسًا ومواكبة وهي: مكتب راعويّة الشبيبة في الدائرة البطريركيّة، وتجمّع يسوع فرحي، وجمعيّة شباب الرجاء. وتنضمّ إلى هذه المجموعة الشبابيّة جمعيّة فينيسيا للقدّيس شربل البولنديّة.
4. لقد شاركنا، كما تعلمون، بأعمال سينودس الأساقفة في حاضرة الفاتيكان برئاسة قداسة البابا فرنسيس طيلة شهر تشرين الأوّل بكامله. كان عدد المشاركين بتعيين من الحبر الأعظم 360 شخصًا بينهم البطاركة الشرقيّون وكرادلة وأساقفة وكهنة ورهبان وراهبات ومؤمنون ومؤمنات وضيوف من كنائس أخرى. كان الموضوع الأساسيّ: كيف تكون الكنيسة سينودسيّة في مقاربة المواضيع والأشخاص، والإصغاء والتمييز في ضوء كلام الله والصلاة والتأمّل وسماع ما يقوله الروح القدس للكنيسة.
وكانت مناسبة جمعتنا في لقاءات خاصّة مع قداسة البابا وكبار معاونيه في أمانة سرّ دولة الفاتيكان، ومع سفراء دول ورئيسة مجلس الوزراء الإيطاليّ، وكان الموضوع إيّاه الضرورة الملحّة لانتخاب رئيس للجمهوريّة فوق كلّ حاجة واضطرار؛ وعودة النازحين السوريّين إلى بلادهم، ومساعدتهم على أرض سوريا. فلبنان غير قادر بعد اليوم على حمل عبئهم الماليّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والتربويّ والأمنيّ؛ والتضامن مع قضيّة الشعب الفلسطينيّ، وضرورة وقف النار ومسيرة الهدم والقتل في قطاع غزّة.
5. قيصريّة فيلبّس مدينة بناها هيرودس فيليبّس على سفح جبل حرمون بين سنة 2 و3 قبل المسيح إكرامًا للقيصر أغسطس الذي كان يلقّب «بالإلهيّ». وشيّد فيها قصره قرب منبع نهر الأردن من جبل حرمون، الذي تعلوه صخور شاهقة، وفي أسفلها فوهة عظيمة كانت تُمارس فيها عبادة إله الحقول «بان»، الذي منه مشتقّ اسم المدينة اليوم «بانياس». في هذا المكان الأثريّ المعبِّر أراد يسوع أن يربّي إيمان تلاميذه الاثني عشر. فسألهم «عمّن هو بنظر الناس». فكان الجواب سهلًا: «بعضهم يقولون إنّك يوحنّا المعمدان، وآخرون إيليّا، وآخرون إرميا أو أحد الأنبياء» (الآية 14). ولكن لمّا سألهم: «وأنتم من تقولون إنّي هو؟» (الآية 15). وحده سمعان-بطرس أعطى جواب الإيمان الذي في قلبه: «أنت المسيح ابن الله الحيّ» (الآية 16).
6. ثلاث كلمات لها مدلولها أمام مشهد القيصريّة: «أنت المسيح»، أي «الملك» الذي يدوم هو وملكه إلى الأبد، لا كالقيصر الذي مات وفني ملكه؛ «أنت ابن الله»، أي الإله الحقيقيّ الأزليّ، إله من إله، مولود غير مخلوق؛ «أنت الحيّ» لا مثل الإله الصنميّ الحجريّ «بان» المعبود في هذا المكان.
جواب يسوع مستلهم هو أيضًا من هذا المكان: «يا سمعان بن يونا أنت الصخرة»، الصخرة الحيّة الناطقة لا كهذه الصخور الصمّاء، وأنت أبديّ بإيمانك بينما هي إلى زوال. «على هذه الصخرة أبني كنسيتي»: على صخرة إيمانك أبنيها فلا تتزعزع، ولا قوى الشر، المتمثّلة بفوهة الخطايا، تقوى عليها. وكنيستي المبنيّة على صخرة الإيمان ثابتة إلى الأبد، لا مثل قصر هيرودس الذي أسقطته عوامل الطبيعة، وأصبح أثرًا بعد عين.
وأكدّ يسوع أنّ جواب سمعان-بطرس ليس منه، بل هو عطيّة من الآب السماويّ قبلها في عقله وقلبه وتفاعل معها فأصبحت إيمانه الصامد كالصخرة. ولذا بدّل يسوع اسمه من سمعان إلى بطرس أي الصخرة.
7. إلى كلّ واحد وواحدة منّا، إلى كلّ إنسان يوجّه يسوع السؤال: «وأنت، من تقول إنّي هو؟» المطلوب جواب حياتك الإيمانيّة. هل يسوع المسيح محور حياتك؟ هل هو الغاية من التزامك في العائلة والكنيسة والمجتمع؟ هل كلامه عندك نور وحياة؟ هل إنجيله إنجيل الحقيقة والمحبّة والسلام، ومصدر أقوالك وأفعالك، وملهمك في ممارسة مسؤوليّاتك؟ لو كانت الأجوبة كذلك لكنّا في عالم أفضل.
8. فالإنجيل ينهي عن البغض والعداوة والقتل والحرب والضرب بالسيف، ويدعو إلى الأخوّة والمحبّة والتغلّب على الشر بالخير، وإلى احترام الحياة البشريّة وكرامتها وقدسيّتها. الإنجيل يحترم السلطة المدنيّة الشرعيّة، ويدعوها إلى ممارسة العدل في خدمة المواطنين. من هذا التعليم تستمدّ المسيحيّة ثقافتها، وعلى أساسها تنظّم الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة. لكنّ هذه الثقافة مفقودة في لبنان.
فها هي السنة الثانية تبدأ وسدّة رئاسة الجمهوريّة في فراغ، وما من كلام جدّي عند أحد بشأن إجراء انتخاب للرئيس. وكأنّ الفراغ مقصود من أجل المضيّ في تفكيك مؤسّسات الدولة، والتلاعب في موظّفيها، وتنفيذ الزبائنيّة في إداراتها. وهذا ما أفقَد المسؤولين السياسيّين ثقة العالم بهم، وبالتالي أهل لبنان. يجب، مهما كلّف الأمر، انتخاب رئيس للبلاد وحماية المؤسّسات، بدلًا من التخطيط لإسقاط هذا أو ذاك، أو التلاعب في القيّمين على هذه المؤسّسة أو تلك. ومن المعيب حقًا أن نسمع كلامًا عن إسقاط قائد الجيش في أدقّ مرحلة من حياة لبنان وأمنه واستقراره وتعاطيه مع الدول. مثل هذا الكلام يحطّ من عزيمة مؤسّسة الجيش التي تحتاج إلى مزيد من المساعدة والتشجيع والاصطفاف حولها. وهي في الوقت عينه منبع ثقة المواطنين واستقرارهم النفسيّ والأمنيّ.
9. وكيف نعبّر عن ألمنا عمّا يجري في غزّة الجريحة بل المهدّمة من حرب هدّامة إباديّة ينصبّ فيها الحقد والبغض بقوّة القنابل والحديد والنار؟! وكذلك في الحرب بين روسيا وأوكرانيا. في الحرب الجميع خاسرون. والويلات قتلًا وتهجيرًا تصيب المواطنين الأبرياء الذين يخسرون منازلهم وكلّ جنى عمرهم. كيف يتبرّأ حكّام الدول وأمراء الحروب من جرائمهم ضدّ الإنسانيّة؟ فإنّا نناشد ضمائرهم لإيقاف النار، وتكثيف الإسعافات الطبيّة والمساعدات الغذائيّة للمشرّدين والجرحى والجائعين والعراة. أمّا في ما يختصّ بالحرب البغيضة الهدّامة هناك فالحلّ الوحيد الذي يجلب السلام إنّما هو قيام الدولتين بنتيجة المفاوضات والحوار الهادئ والمسؤول. لقد آن الأوان لإعطاء الفلسطينيّين حقّهم. إنّ كل الذين التقيناهم في روما عبّروا عن تخوّفهم من امتداد الحرب إلى لبنان.
10. نصلّي إلى الله كي يمسّ ضمائر المسؤولين عندنا، وبخاصّة معطّلي انتخاب رئيس للجمهوريّة فيدركوا حجم جريمتهم بحقّ الدولة ومؤسّساتها واللبنانيّين، وكي يمسك يد أمراء الحرب في الأراضي المقدّسة وسواها عن مواصلة ارتكابهم هذه الجرائم ضدّ الإنسانيّة.
نلتمس رحمتك ومغفرتك يا ربّ، لك المجد والتسبيح الآن وإلى الأبد، آمين.
تأسست وكالة الأنباء الكاثوليكية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا "آسي مينا" في 25 آذار 2022، عيد بشارة السيّدة مريم العذراء، بعد عام واحد على الزيارة التاريخية للبابا فرنسيس إلى العراق. "آسي مينا" جزءٌ من مجموعة CNA/ACI، وهي إحدى خدمات أخبار EWTN.
الأكثر قراءة
1
2
3
4
5
اشترك في نشرتنا الإخبارية
رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!
تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته
أكّد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي أنّ «المجتمع أصبح يعيش في هيكلية من الخطايا التي لا يتوب عنها أحد وكأنها أصبحت خطايا من دون مرتكبين، فيتكلمون على الفساد ولا يعلم أحد من هم المفسدون». وشدّد الراعي، في خلال ترؤسه الذبيحة الإلهية صباح اليوم في الأحد الخامس عشر من زمن العنصرة في المقر الصيفي للبطريركية في الديمان، على أن «لا مجال لبناء حياة جديدة من دون إرادة إيمانية وقرار بالتغيير في نمط التفكير والتصرف».
على هامش مشاركته في الدورة الأولى من الجمعية العامة الـ16 لسينودس الأساقفة في الفاتيكان، لا يفوّت البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي فرصةً أو مناسبةً لنقل هموم لبنان إلى المحافل والأروقة الدوليّة.
تساءل البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي: «لصالح من تُحرم دولة لبنان من رئيس لها، من دونه تنشلّ المؤسّسات؟ ولماذا يُنتهك منذ عشرة أشهر الميثاق الوطنيّ للعام 1943 الذي كرّسه اتّفاق الطائف عام 1989، وينصّ على أن يكون رئيس الجمهوريّة مسيحيًّا مارونيًّا، ورئيس مجلس النوّاب مسلمًا شيعيًّا، ورئيس الحكومة مسلمًا سنيًّا، كتعبير فعليّ للعيش المشترك؟»