فقد حظيت أنطاكيا الملقبة بـ«مدينة الله العظمى» بأهميّة بالغة في تاريخ المسيحية، إذ دُعِي التلاميذ مسيحيين فيها أولًا (أعمال 11: 26). كما تأسست فيها لاحقًا مدرسة لاهوتية تخرّج فيها كبار آباء الكنيسة. وكانت سلطة الكرسي الرسولي الأنطاكي ممتدةً «شاملة بلاد المشرق بأسرها من سواحل بحر الروم غربًا إلى أقصى المملكة الفارسية شرقًا ومن قيليقية وأرمينيا شمالاً إلى حدود فلسطين جنوبًا»، بحسب الخوري إسحق أرملة في «كتاب الزهرة الذكية في البطريركية السريانية الأنطاكية».
أعظم الكراسي البطريركية
أوضح أرملة «أنّ هذا الكرسي كان أعظم الكراسي البطريركية اتساعًا حتّى إنّه كان يخضع لصاحبه في وقت عزّه نحو مئتي أسقف أو مطران». وبيّن أرملة أنّ رئاسة البطريرك عمّت «قاطني تلك البلاد على اختلاف نحلهم وتشعُّب لسانهم كالسريان والكلدان والروم واليونان والعرب والأرمن والفرس». ولم يفت أرملة تأكيد أنّ بطريرك أنطاكيا رغم سلطته الواسعة النطاق، كان يراجع بابا روما في الأمور الدينية الخطيرة وفقًا لما سنّته القوانين الرسولية والمراسيم البيعية.
انقسام بطريركية أنطاكيا
لكنّ هذا «النظام الجليل» أخذ يتشوّه ويتبلبل منذ القرن الخامس ودبّ فيه الشقاق ومزقت الانقسامات جسد كنيسة أنطاكيا. فنشأت بطريركيات لكلّ منها طقسها وتقليدها وحمل جميع بطاركتها لقب أنطاكيا.
فبعدما كان بطريرك الملكيين يحمل هذا اللقب، تبلور في القرن السادس للسريان في سوريا بطريرك حمل هذا اللقب أيضًا، بعد تباعدٍ بين الفريقين في إثر التباينات اللاهوتية الناجمة عن مجمع خلقيدونية. وفي القرن السابع وبعد شغور كرسي الملكيين، صعد مار يوحنا مارون على الكرسي البطريركي فأصبح رأس الكنيسة المارونية وحمل هذا اللقب أيضًا. وفي أوائل القرن الثامن عشر انقسمت كنيسة الملكيين إلى روم أرثوذكس وروم كاثوليك وحمل بطريركا الكنيستين هذا اللقب. وبعد توترات كنسية عدة في القرنَين السابع عشر والثامن عشر انقسمت الكنيسة السريانية إلى كاثوليك وأرثوذكس وحمل بطريركا هذين القسمين اللقب أيضًا. وصار بذلك خمسة بطاركة يحملون هذا اللقب كرؤساء خمس كنائس مختلفة.