«كانت ليلة ظلماء بكلّ ما للكلمة من معنى». هكذا وصف رئيس أساقفة أبرشية الموصل وتوابعها للسريان الكاثوليك المطران بنديكتوس يونان حنّو ليلة سقوط بلدة بغديدا العراقية في أيدي تنظيم داعش الإرهابي في السادس من أغسطس/آب 2014.
في الذكرىالسنوية لهذه المأساة،أكّد حنّو، في حديث خاصّ إلى «آسي مينا»، أنّ المسيحيين تركوا في دقائق تعبَ سنوات. فهم لم يترددوا في التخلّي عن بيوتهم وممتلكاتهم الثمينة مقابل الحفاظ على إيمانهم. وذكّر «بأنهم مضطَهَدون من أجل إيمانهم، ولا أسمى من حفاظ الإنسان على إيمانه».
غرباء في الوطن
شرح حنّو صعوبة التجربة وقساوتها يوم «فرغت البيوت والكنائس. وخلت مناطقنا التاريخية من سكانها الأصليين، ليتحوَّلوا بين ليلة وضحاها إلى مهجَّرين، غرباء في الوطن». فبحثًا عن ملاذ آمن، قصد مسيحيّو بغديدا وقرى وبلدات سهل نينوى المحتلة إقليم كردستان، ولا سيّما أربيل. وأوضح حنّو أنّ أبواب الإقليم كانت مفتوحة أمامهم، حيث مكثوا قرابة ثلاث سنوات حتى تحرير مناطقهم عام 2017.
لكن «على الرغم من سعي الجميع إلى احتضاننا بكل ما أوتوا من قوة وإمكانيات، والمساعدات التي قدمتها حكومتا المركز والإقليم فضلًا عن الوكالات والمنظمات الإنسانية العالمية، كان هاجس الغربة طاغيًا»، كما قال حنّو. وتابع: «عاش هذا الشعب التشرد والغربة في بيته ووطنه. وأيّ إحساسٍ أكثر صعوبةً وإيلامًا من أن نعيش الغربة في بلدنا؟».
لم تستطع بعض العائلات احتمال ما عاينت وعانت. غادر كثيرون العراق مرغَمين قاصدين الأردن ولبنان وتركيا. ثم قصدوا أوروبا وأميركا وأستراليا.
بعد العودة والإعمار
فَصَّلَ حنّو واقع أبناء أبرشيته بعد تسع سنوات من تجربة داعش، كاشفًا أنّ «شعبنا تقسّم وتشتت بسبب الهجرة». فبعد التحرير، شجّعت الكنيسة أبناءها على العودة، وبمساهمة منظمات عدة من دول مختلفة وخيّرين ودولة هنغاريا، أعيد إعمار الكنائس وترميم البيوت وإصلاحها، بحسب حنّو.
ويعتقد رئيس أساقفة الموصل أنّ تداعيات احتلال داعش الإرهابي لبلدات مسيحيي العراق ومدنهم التاريخية لم تنتهِ بتحريرها وعودة من عاد إلى دياره. فالمهاجرون يحتاجون إلى رعاية الكنيسة وقربها، وإلى كهنة يخدمون الأسرار وغير ذلك، كما فسّر. وأضاف: «ننظر بألم وأسى كبيرَين إلى واقع عائلاتنا المشتتّة، فأفراد العائلة الواحدة موزّعون على القارات. لذا ننظر بقلق إلى المستقبل متسائلين: هل ثمّة أمل في لمّ شملهم يومًا من جديد؟».
وشبّه حنّو حال الكنيسة اليوم بـ«الشبكة التي لطالما جمعَت، ومن ثم تمزقت، فتشتت شعبنا إلى جميع بقاع العالم وتبعثرت كنيستنا». وأردف «أستطيع القول إنّ شعبنا المسيحي، العراقي الأصل، منتشر اليوم في بقاع الأرض كلّها». لكنّه ذكّر بتدفّق أفواج غفيرة من المغتربين إلى البلاد في خلال فترات الأعياد.
تحدّيات الوجود والبقاء
«أرضنا وحدها تجمعنا» هكذا جزم حنّو مسلِّطًا الضوء على تحديات عدّة تواجه الكنيسة في سبيل الحفاظ على الهوية المسيحية لهذه المناطق. وشدد على أنّ «أولوية الحفاظ على مناطقنا مستندة إلى تغلغل جذورنا التاريخية والإيمانية فيها، فضلًا عن كونها اليوم المكان الوحيد الذي يجمع شتات هذا الشعب ويلمّ شمله». ولم ينفِ حنّو وجود تحديات، بل استطرد قائلًا: «نواجه صراعًا على الأرض بكل ما يعنيه من صراع الهوية وصراع الوحدة»، وبعد تسع سنوات على المأساة «لا نزال ننظر إلى مدننا بقلق».
أشار حنّو إلى أنّ الهجرة تقلّصت كثيرًا لكنها لم تغب كليًّا. وأعرب عن القلق من أن تفتح التحديات التي يواجهها المجتمع المسيحي باب الهجرة من جديد، «ولا سيّما الشباب، نظرًا إلى قلة الوظائف وشحّ فرص العمل في بلدنا والصراعات التي يشهدها»، على حدّ قوله. واستدرك معلنًا أنّ لديهم ثقة كبيرة ورجاءً راسخًا بأنّ الأوضاع ستتحسّن وستميل نحو الأفضل.
وتابع: «نحن اليوم ككنيسة وكشعب مسيحي أقوى بكلّ المقاييس ورغم كلّ الظروف، كلمتنا المسموعة أكبر دليل على أنّ الكنيسة قوية. ورغم مواجهتنا تحديات جمّة، ما زلنا واقفين وصامدين». واسترسل: «بخبرة السنوات التسع أقول اليوم: نحن بخير، ليس لدينا تخوّف من أي أمر».
العيش بأمان وسلام؟
لم تَطَل جرائم داعش المسيحيين فحسب بل أصابت العراقيين باختلاف دياناتهم وطوائفهم ومذاهبهم. فالمسلمون أنفسهم، سنّةً وشيعةً، تضرروا كثيرًا «فإن كنّا نرغب في أن نعيش جميعنا في أمان وسلام، لا مفرّ من الصحوة»، قال حنّو.
ربما تبدو حرب التحرير حربًا بين الديانة الواحدة، لكنها شكّلت، مع ما رافقها من تضحياتٍ ودماء، نقطة تحوّل. «فاليوم، وعي سكان محافظة نينوى حول مفهوم الأمان والسلام ليس كما كان قبل أربعة عشر عامًا. فقد أصبحوا يفهمون على نحو أفضل أهمية الحفاظ على حرية الآخر، ويدركون أنّ قوى الشر لن تستثني أحدًا»، كما فسر.
(تستمر القصة أدناه)
اشترك في نشرتنا الإخبارية
وعن وتيرة عودة العائلات المسيحية إلى مدينة الموصل، مركز محافظة نينوى ومقرّ كرسيّ الأبرشية الرسمي، لم يخفِ حنّو أنها ضعيفة جدًّا. فالعائدون، من السريان الكاثوليك، لا يزيدون على قرابة مئة عائلة. ونبّه إلى أنّ كنيسَتَي «البشارة» في ساحل الموصل الأيسر و«مار توما» في الأيمن السريانيتَين الكاثوليكيتَين، هما أول كنيستَين فتحتا أبوابهما أمام المصلّين في الموصل.
وأعلن حنّو عبر «آسي مينا» عن قرب افتتاح «كنيسة الطاهرة» التي زارها البابا فرنسيس وصلّى أمام أطلالاها.
أيعود كرسي الأبرشية إلى الموصل؟
«نعم، حلمنا أن نعود إلى بيتنا»، بهذه الكلمات أجاب حنّو عن تساؤلنا حول عودة كرسي الأبرشية إلى الموصل. وأضاف «بغديدا بيتنا أيضًا، لكنّ الموصل هي المقرّ الرئيس للأسقفية، ولم يُنقَل رسميًّا إلى اليوم، لأننا عائدون».
الأكثر قراءة
1
2
3
4
5
يُذكر أنّ قرةقوش، واسمها السرياني بغديدا، الواقعة في محافظة نينوى، شمال العراق، لا تزال تضمّ أحد أكبر التجمعات المسيحية في البلاد، على الرغم من تقلص أعدادهم من نحو 60 ألفًا قبل 2014 إلى قرابة 30 ألفًا اليوم. وبحسب أمانة سر مطرانية السريان الكاثوليك، كان تعداد مؤمنيها قبل صعود داعش 55 ألفًا، وقد تقلّص اليوم إلى 27 ألفًا فقط.
تحدّيات الواقع المسيحي ومسألة التطاول على بطريرك الكنيسة الكلدانيّة الكاردينال لويس روفائيل ساكو وإشكاليّة مقاعد نوّاب الكوتا المسيحيّة في البرلمان العراقي وما قابلها من وعود بالمتابعة القانونيّة وعدم التمييز بين العراقيين شكّلت أبرز محاور لقاء جمع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، في خلال زيارته قرةقوش، مع رئيس أساقفة أبرشيّة الموصل وتوابعها للسريان الكاثوليك المطران بنديكتوس يونان حنّو.
لا تقتصر كنيسة مار توما للسريان الكاثوليك الواقعة في الجانب الأيمن من الموصل شمالي العراق على كونها كنيسة تاريخيّة، بل يمكن اعتبارها مركزًا ثقافيًّا مهمًّا، فهذا الصرح المُشيّد في العام 1863 شهد على مدى 160 عامًا حركة إيمانيّة ونشاطات ثقافيّة وكتابيّة لم تتوقّف على الرغم من كل ما مرّ به من أحداث.