ماذا يمكننا أن نتعلّم من هذَيْن الشخصَيْن المتقدِّمَيْن في السّن، والمليئَين بالحيويّة الروحيّة؟
يمكننا أن نتعلّم أنّ الأمانة في الانتظار تنقّي الحواس. ثمّ، نحن نعلم أنّ الرّوح القدس يفعل بالتّحديد ما يلي: إنّه ينير الحواس. في الترنيمة القديمة ”هلمَّ أيّها الرّوح الخالق“ (Veni Creator Spiritus)، التي ما زلنا نطلب بها حضور الرّوح القدس اليوم، نقول: "أضئ الحواسَ بالنور". أشعل نورًا يضيء حواسنا، أضيء حواسنا. الرّوح قادرُ أن يفعل هذا: يَصقل حواس النّفس، على الرّغم من محدوديّة وجراح حواس الجسد. الشّيخوخة تُضعف، بطريقة أو بأخرى، حساسيّة الجسد: واحدٌ أعمى أكثر، وواحدٌ أصمٌّ أكثر. ومع ذلك، الشّيخوخة التي تمرّست في انتظار زيارة الله، لن تضيّع عبوره، بل ستكون أكثر استعدادًا لاستقباله، سيكون لديها حساسيّة أكبر لاستقبال الرّبّ يسوع عندما سيمر. لنتذكّر أن تصرّف المسيحيّ هو أن يتنبّه لزيارات الرّبّ يسوع، لأنّه يمر بحياتنا بإلهام، ويدعونا إلى أن نكون أفضل. قال القدّيس أغسطينس: ”أخاف الله عندما يمرّ“ - ”لماذا تخاف؟“ - ”نعم، أخاف ألّا ألاحظ وأدعه يمرّ“. الرّوح القدس هو الذي يهيّئ حواسنا لنفهم متّى يزورنا الرّبّ يسوع، كما فعل مع سمعان وحنّة.
نحن بحاجة اليوم إلى هذا أكثر من أيّ وقتٍ مضى: نحن بحاجة إلى شيخوخة تتمتّع بأحاسيس روحيّة حيّة، وقادرة أن تتعرّف على آيات الله، بل على آية الله، التي هي يسوع المسيح. الآية التي تضعنا في أزمة، دائمًا: يسوع يضعنا في أزمة لأنّه - هو "آيَة مُعَرَّضَة لِلرَّفْض" (لوقا 2، 34) - ولكنّها تملأنا بالفرح. لأنّ الأزمة لا تحمل لنا الحزن بالضّرورة، لا: أن نكون في أزمة ونخدم الرّبّ يسوع، يعطينا هذا في كثير من الأحيان السّلام والفرح. فقدان الحواس الروحيّة – وهذا سيء – فقدان الحواس الروحيّة، في إثارة وذهول الحواس الجسديّة، هو سمة منتشرة في مجتمع ينمّي وَهْمَ الشّباب الأبدي، وأخطر سماته تكمن في عدم وعي المجتمع على أنّ عدم وعيه آخذ في الازدياد. ولا ينتبه أنه مخدَّر. وهذا يحدث: لقد حدث دائمًا ويحدث في وقتنا. الحواس مخدّرة، من دون أن نفهم ما يحدث. الحواس الداخليّة وحواس الرّوح حتى نفهم حضور الله أو حضور الشّرّ هي مخدّرة، ولا تميّز.
عندما تفقد حاسّة الّلمس أو الذوق، تلاحظ ذلك مباشرة. بينما، يمكنك أن تتجاهل حاسّة الرّوح، حاسّة الرّوح تلك، مدّة طويلة، وتعيش من دون أن تنتبه أنّك فقدت حاسّة الرّوح. الإحساس الرّوحي لا يشمل فقط التّفكير في الله أو في الدّين. شلل الإحساس الرّوحي يشمل الرّحمة والرّأفة، والخجل والنّدم، والأمانة والتّفاني، والحنان والشّرف، والمسؤوليّة الشخصيّة والتألّم مع الآخر. إنّه أمر مثير للاهتمام: شلل الإحساس يجعلك غير قادر أن تفهم الرّأفة، والشّفقة، وغير قادر أن تشعر بالخجل أو النّدم على اقترافك أمرًا سيّئًا. هكذا هي: الحواس الروحيّة المخدّرة تخلط كلّ شيء وتجعلك لا تشعر روحيًّا بهذه الأمور. وتصبح الشّيخوخة، إن صحّ التعبير، الضّحيّة الأولى لفقدان هذه الحساسيّة الرّوحيّة. في مجتمع يمارس الحساسيّة من أجل الاستمتاع أوّلاً، لا يمكن إلّا أن يفقد إحساسه تجاه الأضعفين، وستسود دائمًا منافسة المنتصرين. وهكذا نفقد الحساسيّة. بالتّأكيد، إنّ خطاب الاندماج هو الصّيغة الدارجة لكلّ خطاب يُعتبر مناسبًا ”للسياسة المتبعة“. لكنّه حتى الآن لم يصنع أي إصلاح حقيقي في طرق العيش معًا بصورة طبيعيّة: نعم، هناك جهد لتنميّة ثقافة شفقة اجتماعيّة. لا: لكنّ روح الأخوّة الإنسانيّة - الذي بدا لي أنّه من الضروري إحياؤه وبحزم – يشبه ثوبًا وُضِع على جهة، نُعجَب به، نعم، لكنّه... في متحف. نفقد الحساسيّة الانسانيّة، ونفقد حركات الرّوح التي تجعلنا بشرًا.
هذا صحيح، يمكننا في الحياة الواقعيّة أن نلاحظ، بشكرٍ وتأثّر، شبابًا كثيرين قادرين أن يحترموا هذه الأخوّة بشكل كامل. لكن، هنا بالتّحديد تكمن المشكلة: هناك فجوة، فجوة مذنبة، بين شهادة صفاء هذه الشفقة الاجتماعيّة، وضرورة التمثّل بالموقف العام الذي يفرض على الشّباب أن يصوغوا أنفسهم بطريقة مختلفة تمامًا. ماذا يمكننا أن نفعل لسدّ هذه الفجوة؟
(تستمر القصة أدناه)
اشترك في نشرتنا الإخبارية
من قصة سمعان وحنة، وأيضًا من قصص الكتاب المقدس الأخرى للشيخوخة الحساسة للرّوح، هناك إشارة خفية تستحق أن تظهر في المقدمة. ما هو الوحيّ الذي أشعل حساسية سمعان وحنة؟ إنّه وحيّ ليروا في طفل، لم يلدوه هم، ورأَوْه لأوّل مرة، أنّه العلامة الأكيدة لزيارة الله لهما. وقبلوا أن لا يكونوا هم الشخصيّات الرئيسيّة، بل مجرد شهود. وعندما يقبل أحدهم ألّا يكون شخصيّة رئيسيّة، بل يقبل أن يشارك مثل شاهد، الأمر سيسير على ما يرام: ذلك الرجل أو تلك المرأة سينضج جيّدًا. لكن إن كان لديه دائمًا الرّغبة في أن يكون شخصيّة رئيسيّة، عندها لن تنضج أبدًا فيه هذه المسيرة نحو كمال الشّيخوخة. زيارة الله لا تتجسّد في حياتهما (سمعان وحنّة)، وفي حياة الذين يريدون أن يكونوا شخصيّات رئيسيّة فقط وليس شهودًا، ولا تجعلهم يظهرون على أنّهم المخلّصون: فالله لا يتجسّد في جيلهم، بل في الجيل الذي سيأتي. إنّهم يفقدون روحهم، ويفقدون الرّغبة في العيش مع النّضج، وكما يُقال عادة، يعيشون بشكل سطحيّ. إنّه جيل السطحيّين الكبير، الذين لا يسمحون لأنفسهم بأن يشعروا بالأمور بحساسيّة الرّوح. لكن لماذا لا يسمحون بذلك؟ من جهة بسبب الكسل، ومن جهة أخرى لأنّهم لا يستطيعون بالفعل: لقد فقدوها. إنّه لأمر سيءّ أن تفقد حضارة ما حساسيّة الرّوح. بينما إنّه لأمر رائع عندما نجد شيوخًا مثل سمعان وحنّة يحافظون على حساسيّة الرّوح هذه، وقادرين أن يفهموا المواقف المختلفة، مثلما فهم هذان الشّيخان الموقف الذي كان أمامهما وهو ظهور المسيح. ولم يصدر منهما أي استياء ولا لوم على هذا، عندما كانا في حالة السّكون هذه. بدلًا من ذلك، نشأ فيهما انفعال كبير وتعزيّة كبيرة عندما كانت الحواسّ الروحيّة حيّة فيهما. انفعال وتعزيّة بأن يكونا قادرَين على رؤية وإعلان أنّ تاريخ جيلهم لم يكن ضياعًا ولا تبديدًا، بسبب حدثٍ تجسّد وتجلّى في جيل من بعدهم. وهذا ما يشعر به كبير السنّ عندما يذهب أحفاده للتحدّث معه: يشعر بالانتعاش. وكأنّه يقول: ”حياتي ما تزال هنا“. مهمٌّ جدًّا أن نذهب إلى كبار السنّ، ومهمٌّ جدًّا أن نصغي إليهم. ومهمٌّ جدًّا أن نتحدّث إليهم، حتّى يحدث تبادل الحضارات هذا، وتبادل النّضج هذا بين الشّباب وكبار السّنّ. وهكذا، تتقدّم حضارتنا إلى الأمام بطريقة ناضجة.
الشيخوخة الروحيّة وحدها يمكن أن تعطي هذه الشهادة المتواضعة والرائعة، شهادة صادقة ومثالية يَقتدِي بها الجميع. الشيخوخة التي تنمّي حساسية الرّوح تطفئ كلّ حسد بين الأجيال، وكلّ ضغينة، وكلّ اتهام مضاد لمجيء الله في الأجيال القادمة، الذي يأتي مع مغادرة ”كبير السّن“ للحياة. وهذا ما يحدث لكبير السنّ المنفتح على شاب منفتح: فكبير السّن يودّع الحياة، ولكنّه يسلّم حياته للجيل القادم. وهذا هو وداع سمعان وحنّة للحياة: ”الآن يمكنني أن أغادر بسلام“. الحساسيّة الروحيّة في الشيخوخة قادرة على كسر المنافسة والصراع بين الأجيال بصورة صادقة ونهائية. هذه الحساسية تتخطّى أمورًا كثيرة: بهذه الحساسيّة يتغلّب كبار السنّ على الصّراع، ويتجاوزونه، ويذهبون إلى الوَحدة، وليس إلى الصّراع. هذا بالتّأكيد مستحيل على الإنسان، لكنّه ممكن عند لله. واليوم نحن بحاجة إليه كثيرًا، وإلى حساسيّة الرّوح، وإلى نضج الرّوح. نحن بحاجة إلى كبار سنٍ حكماء، وناضجين بالرّوح يمنحوننا الرّجاء في الحياة!
تأسست وكالة الأنباء الكاثوليكية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا "آسي مينا" في 25 آذار 2022، عيد بشارة السيّدة مريم العذراء، بعد عام واحد على الزيارة التاريخية للبابا فرنسيس إلى العراق. "آسي مينا" جزءٌ من مجموعة CNA/ACI، وهي إحدى خدمات أخبار EWTN.