في 22 كانون الثاني 2022، افتتحت دعوى تطويب خادم الله الأب نقولا كلويترز اليسوعي الذي روى البقاع الشمالي اللبناني بدمه.
ما سيرة حياة هذا الكاهن الشهيد؟ ما أبرز فضائله؟ ما التغيير الذي أحدثه في لبنان؟
احتفلت الرهبنة اليسوعيّة في الشرق الأدنى والمغرب العربي بافتتاح دعوى تطويب خادم الله الأب نقولا كلويترز اليسوعي، في قداس إلهي ترأسه النائب الرسولي اللاتيني في بيروت المطران سيزار إسّايان في كنيسة القديس يوسف للآباء اليسوعيين في الأشرفيّة، بمعاونة السفير البابوي في لبنان المونسنيور جوزيف سبيتيري، والرئيس الإقليمي للرهبنة اليسوعيّة الأب مايكل زمّيط، ورئيس دير تعنايل للآباء اليسوعيين الأب جوزيف نصّار، والرئيس العام للرهبنة الباسيليّة المخلّصيّة أنطوان ديب، والأب طانيوس رزق الكبّوشي، وكاهن رعيّة برقا الأب ميشال معلوف، ومشاركة لفيف من الكهنة، وحضور المؤمنين.
وتناول المطران إسّايان، في عظته، سيرة حياة الأب الشهيد نقولا كلويترز وفضائله وشهادته، مؤكدًا أن هذا الكاهن المُرْسَل أتى ليعلّمنا معنى الرسالة، وأن الكنيسة تقدّم لنا قديسين كي يكونوا رفاقًا مبشّرين بالإنجيل.
ودعا المؤمنين إلى تحدّي الصعوبات والعمل على بناء مجتمع جديد، والتضحية من أجل الإخوة كي تتحقّق الوحدة بالمحبّة، على مثال الأب كلويترز الذي تجلّت معجزة دعوته في إتمام المصالحة الكبيرة في بلدة برقا في الثمانينات قبل استشهاده.
على طريق التطويب…
في حديث خاصّ لـ"آسي مينا"، أكد الأب سمير بشارة، الراهب اليسوعي في دير القديس يوسف في الأشرفيّة، أن سيرة حياة الأب نقولا كلويترز التي تكلّلت بالشهادة توازي بحدّ ذاتها أكبر المعجزات، إذ كان ذائع الصيت في برقا والقرى المجاورة التي خدم فيها قبل استشهاده، وما زالت منازل الرعيّة مزدانة بصوره.
وأوضح الأب بشارة أن الكرسي الرسولي وافق على فتح دعوى التطويب في انتظار الإجراءات القانونيّة، مؤكدًا أن لا إلزاميّة للمعجزات في حال إثبات أنه مات شهيد الإيمان إذ يُعلن طوباويًّا من دون إعلانه مكرّمًا.
وشدّد على أن أبرز فضائله تتجلّى في روح التواضع والتفاني والعمل في حقل الربّ وعدم التمييز بين الطوائف والأجناس والأعراق والعطاء المجّاني والفنّ الذي أحبّه وجسّده في رسالته الرعويّة من خلال ما قام به من نشاطات روحيّة مثل المسرحيّات ودرب الصليب في البلدة.
وأشار الأب بشارة إلى أن الرسالة التي يحملها الأب نقولا إلى اللبنانيين اليوم تتمثّل في الدعوة إلى الوحدة على غرار دعوة المسيح "كونوا واحدًا!"، مضيفًا: لقد جاهد خادم الله وناضل واستشهد من أجل أن يسود السلم في البقاع الشمالي على الرغم من تعدّد طوائف أبنائه، وكان مثالًا للكاهن الفاضل في قرية مهمّشة على الأطراف إذ خدمها من أعماق قلبه، مشجّعًا على المصالحة والتنشئة والتعليم.
الأب نقولا كلويترز… حبٌّ حتى الشهادة
الأب نقولا كلويترز هو هولنديّ الأصل (1940-1985)، ترعرع في كنف أسرة متواضعة. تابع دراسته في معهد مهنيّ، والتحق بأكاديميّة الفنون الجميلة في لاهاي. كان فنّ الرسم شغفه الكبير، وأصبح أستاذًا في هذه المادة. عاش صراعًا حقيقيًّا بين دعوته الدينيّة ورغبته في التخصّص بالفنّ، لكنه اختار التكرّس لله.
تعلّم اللغة العربيّة في لبنان، وحاز دبلوم معاون اجتماعي. كان عنيدًا جدًّا على غرار الهولنديين.
بعد رسامته الكهنوتيّة في هولندا، عُيّن كاهنًا في دير اليسوعيين في تعنايل-البقاع. تمثّلت مهمّته في الاعتناء بالبقاع الشمالي: الهرمل، ودير الأحمر، والقاع، وإيعات، وحدث بعلبك، ووادي الرطل، ونبحا، والقدام، والزرازير، وبيت بو صليبي.
استأجر غرفة في الهرمل حيث لا وجود للمسيحيين كي يكون قادرًا على مساعدة الأهالي في كل المناطق. تميّزت حياته بالجدّيّة والتقشّف، وكان يزور تعنايل مرّة أسبوعيًّا كي يبقى على تواصل مع رفاق دربه اليسوعيين.
في العام 1973، تعرّف إلى سكان بلدة برقا، هذه القرية المسيحيّة التي بلغ عدد سكانها 1700 نسمة، وعُيّن فيها كاهن رعيّة في العام 1977، فشجّع سكان البلدة على عدم النزوح منها، وأصبحت أولويّته بقاء المسيحيين في أرضهم ومنحهم الأمل في المستقبل.
سعى الأب نقولا إلى بناء مدرسة في برقا وحاول تشجيع إنشاء العديد من المدارس في المنطقة، وعمل على تنمية الزراعة عن طريق تطوير الريّ وإنشاء الطرق الزراعيّة، مشاركًا السكان في مهمّاتهم.
في العام 1980، صالح العائلات والعشائر التي عانت من الانقسامات، وتمّت المصالحة رسميًّا في حضور المطران اللبناني الراحل رولان أبو جودة ووجهاء العائلات، فكسب محبّة الأهالي.
أدرك الأب نقولا أن رسالته تكمن في أن يكون رجل مصالحة في قرية مسيحيّة محاطة بقرى مسلمة، من خلال زرع بذور الإيمان والمساعدة في الإنتاج.
تابع بناء مدرسة البلدة وقاعة الرعيّة ومنزل الكاهن، وتمّ توسيع الكنيسة، وتمكّن من افتتاح مشغل ومستوصف ومعمل للمنسوجات بالتعاون مع راهبات القلبين الأقدسين. ساعد الأهالي على إنشاء طريق زراعيّة للوصول إلى الأراضي المرتفعة للتمكّن من زراعة الفواكه. شكّل هذا الأمر خطوة إلى الأمام والشعور بالمسؤوليّة المشتركة والعمل والتضحية، فانطلقت مبادرات جديدة، منها وضع خطّة لبناء كنيسة "مار شربل" في الجبل وسط أشجار التفاح، وتبرّع الأهالي بالأموال اللازمة من أجل بنائها، فكانت كنيسة لكل الناس والعائلات من دون أيّ تفرقة.
في الجمعة العظيمة، نظّم الأب نقولا درب صليب حيّ في البلدة بمشاركة جميع الأهالي، فوظّف شغفه بالفنّ من أجل تجميل نفوس البشر، ورسم لوحات رائعة، أجملها مراحل درب الصليب في برقا.
(تستمر القصة أدناه)
اشترك في نشرتنا الإخبارية
في المقابل، ولّدت هذه الخطوات الإيجابيّة والاتحاد مع الأهالي الغيرة والحقد، وزعزع عمله الأهداف السياسيّة المحليّة…
خُطف الأب نقولا، وتعرّض لأقسى أنواع التعذيب، ونال إكليل الشهادة في 14 آذار 1985، وعُثر على جثمانه في بئر بعد مرور 15 يومًا على وفاته.
من أجل تفادي المشاكل وعدم الانتقام، دُفن الأب نقولا في دير تعنايل، وأقامت برقا مراسم جنازته في الجمعة العظيمة لتسلّط الضوء على التشابه بين مقتله وموت المسيح، فتحوّل استشهاد الأب اليسوعي علامة رجاء وقيامة.
شهادات عن الأب كلويترز
إليكم أبرز الشهادات التي قيلت عن الأب نقولا كلويترز:
الأكثر قراءة
1
2
3
4
5
-إيلينا كلويترز، والدة الأب الشهيد نقولا كلويترز، قالت عندما علمت باختطافه: "منذ قبولي بعمل ابني في تلك المنطقة، قبلت بكل شيء".
وعندما علمت بموته، أعربت عن مشاعرها بقلب مفعم بالتعزيات، قائلة: "كم احتمل وتعذّب! بالرغم من كل ذلك، عزائي أنه أصبح لي ابن قديس، صنع الربّ معه أشياء عظيمة!"
-رسالة من الكاردينال أغوستينو كازارولي، أمين سرّ الفاتيكان، إلى الرئيس العام للرهبانيّة اليسوعيّة في روما: "يشارك الحبر الأعظم الرهبانيّة اليسوعيّة جمعاء الألم والحزن إثر مقتل الأب نقولا كلويترز بطريقة وحشيّة في لبنان. وإذ يرفع إلى الربّ صلواته الحارّة من أجل راحة نفسه، يتقدّم إليكم وإلى أبناء القديس أغناطيوس دي لويولا الروحيين بمشاعر تضامنه المسيحي في هذه الشهادة الدمويّة الأخيرة، ويمنحكم من صميم القلب عزاء بركته الرسوليّة".
-كلمة المطران اللبناني رولان أبو جودة، في ذكرى مرور 40 يومًا على استشهاد الأب كلويترز، حين شاهد حزن أهالي برقا ونسائها اللواتي سرن حافيات حزنًا عليه: "من أراد أن يحجّ، فليتوجّه الى برقا. أنتم تطلبون مني كاهنًا بديلًا يشبه الأب نقولا، فإذا أردتُ أن أكون كاهن رعيّة برقا، لن أحلّ مكان الأب نقولا!"
سُئل الأب نقولا كلويترز قبل استشهاده: كيف تربط بين العدالة والإيمان؟
فأجاب: العدالة التي نحتاج إليها هي عدالة الإنسان المجروح وشفاء الروح واستعادة ثقة الإنسان بذاته. العدالة هي تليين القلوب المتحجّرة والحدّ من الكراهية، وبناء جيل جديد لبناء عالم أفضل...
وثق الأب نقولا بأن المسيح قادر على خلاص العالم من روح السلطة العمياء والعنف المدمّر. شخص واحد خلّصنا من الشرير سُمّر على الصليب. لطالما شعر بأنه يسأله يوميًّا: هل تتحلّى بالجرأة كي تتبعني من أجل خلاص البشريّة؟ كان ينظر إليه، ويجيبه بخجل: سأحاول بذل قصارى جهدي…
نعم! أحبّ الأب نقولا كلويترز المسيح حتى الشهادة التي أزهرت نعمًا وصمودًا وقداسة في لبنان.
مديرة التحرير السابقة في «آسي مينا»، صحافيّة لبنانيّة ملتزمة. سعيت دومًا في مسيرتي المهنيّة إلى حمل شعلة البشارة باسم يسوع المسيح وإيصال كلمته إلى أقاصي الأرض.
رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!
تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته