إنّه في البداية يسائل ضمائر المسؤولين السياسيين عن موقفهم من عذابات الشعب؟ يرتفع سعر الدولار ولا أحدَ منهم يتحرّك! تهبط الليرة اللبنانيّة ولا يرفُّ جفن مسؤول! يستخفّون بأصحاب الودائع ويعدونهم بإعادة أموالهم فيما قرارات الدولة تُناقض هذه الوعود. الشعب يتسوّل الخبز والغذاء والدواء والكهرباء والمياه والغاز والمحروقات وفرص العمل والأجور والتعويضات، وهم غير معنيين! التحقيق في تفجير مرفأ بيروت ينتظر القضاء، والقضاء ينتظر نهاية المناكدات السياسيّة والمذهبيّة! حصلت جريمةٌ سياسيّةٌ في بلدة العاقبيّة الجنوبيّة واغتيل جنديٌّ إيرلنديٌّ من قوّات حفظ السلام، وكأنّه حدث عابر! في سجون لبنان مسجونون من كل الطوائف من دون محاكمة، وفي المحاكم دعاوى مكدّسة منذ سنين، والقضاء في حالة إضراب، والمسؤولون السياسيّون غير معنيين!
7.هذا، ومن المؤسف حقًّا أن كل المعطيات السياسيّة تؤكد وجود مخطّط ضدّ لبنان لإحداث شغور رئاسي معطوف على فراغ دستوري يعقّد أكثر فأكثر انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة. ألم تمنع فئاتٌ سياسيّةٌ تأليف حكومة قبل انتهاء ولاية الرئيس العماد ميشال عون رغم علمها أن الحكومة القائمة مستقيلة حكمًا وتُصرِّف الأعمال، وأنّها ستخلق إشكاليّاتٍ في تحديد دورها؟ ومن ثمّ صار تعطيل متعمّد لانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة ليصبح لبنان من دون أيّ سلطة شرعيّة. نسأل المعنيين بهذا المخطّط: ماذا تريدون؟ لماذا تنتقمون من لبنان؟ لماذا تهدمون دولة لبنان؟
مهما دارت الظروف لا أولويّةَ سوى انتخاب رئيس. لا توجد دولةٌ في العالم من دون رئيسٍ حتى في غياهب الكرة الأرضيّة. إن الذين يمنعون انتخاب رئيسٍ لكل لبنان، يمنعون قيامة لبنان. أمّا البطريركيّة المارونيّة، فمصمّمة على مواصلة نضالها ومساعيها في لبنان ولدى المجتمعَيْن العربي والدولي من أجل تسريع الاستحقاق الرئاسي. لكن الصراع الإقليمي يعيق هذه المساعي لأنّ هناك من يريد رئيسًا له لا للبنان ويريد رئيسًا لمشروعه لا للمشروع اللبناني التاريخي. وهذا أمرٌ لن ندعه يحصل، فلبنان ليس ملك فريقٍ دون آخر.
8.يعيش اللبنانيّون اليوم أزمة تفوق سائر الأزمات والحروب السابقة. وإذا كانت الأزمات السابقة وجدت لها حلولًا وتسويات بينما الأزمة الحاليّة لا تزال عصيّةً على الحلول والتسويات الوطنيّة، وحتى عصيّةً على الحوارات الداخليّة، فيعني أنّها أزمة مختلفة بجوهرها وغاياتها عن كل الأزمات السابقة. هذه أزمةٌ من خارج الكيان والنظام والشرعيّة. والمشكلة أن الذين يرفضون نظام لبنان وهويّته وخصوصيّته لم يقدّموا أيّ مشروع دستوري يكشف عمّا يريدون. والتسريبات المتناقلة عن مشروعهم لا تناسب أيّ مكوّنٍ لبناني سوى أصحاب المصالح الخاصّة، وليست بالتأكيد أفضل من لبنان القائم. حتى الآن لم يقدِّم أيّ طرف لبناني فكرة وطنيّة أو حضاريّة أفضلَ من الفكرة اللبنانيّة. وإذا كنّا دعونا -ونُصرّ- إلى مؤتمر برعاية الأمم المتّحدة والدول الصديقة خاصٍّ بلبنان، فلكي نحيّد لبنان عن أيّ مواجهةٍ عسكريّةٍ ويبقى الوضع مضبوطًا في هذه المرحلة الإقليميّة المجهولة المصير. ونقول أيضًا إن الدعوة من جهتنا إلى هذا المؤتمر تأتي لأننا يئسنا من السياسيين.
9.إن السياسيين اللبنانيين لا يقدّرون إنجاز قيام دولة لبنان الكبير. جميع أقليّات الشرق الأوسط وإثنيّاته من أرمينيا إلى سوريا حاولت الحصول على دولٍ أو دويلاتٍ لها بعد الحرب العالميّة الأولى، لكنها أخفقت في مسعاها رغم كفاحها في المؤتمرات الدوليّة. وحدها البطريركيّة المارونيّة مع الجماعات اللبنانيّة المؤمنة بلبنان نجحت في انتزاع دولة لبنان الكبير التي كان يتصارع عليها الشرق والغرب. ولنعد إلى التاريخ معلّم الحياة، لذا، حريٌّ بكل لبناني أن يقدّر هذا الإنجاز الاستثنائي العظيم، خصوصًا أنّنا حرصنا على أن يكون لبنان هذا ملتقى مكوّناتٍ متعدّدة الأديان والحضارات ليكون رسالة. فلبنان ليس بلد الأقليّات أو الأكثريّات، بل هو وطن كل جماعةٍ تبحث عن قيم الروح وعن نمط حياةٍ حضاري وثقافي وعصري. لكن لبنان الرسالة يحتاج رسلًا. فأين الرسل اليوم؟
10.صحيح أن ما من مكوّن لبناني إلا وضحّى من موقعه في سبيل لبنان ودفع دمًا ثمن السيادة اللبنانيّة. ولكن هذه التضحيات لم تجمعنا ولم توحّدنا كفايةً لأن توظيف بعضها جاء خارج الدولة والولاء لها. فلذلك، قبل أن تتصالح الأطراف اللبنانيّة المتنازعة في ما بينها، جديرٌ بها أن تتصالح مع الوطن أوّلًا لأنّنا في الحقيقة لسنا على خلافٍ مباشر مع أحد، بل نحن على تباينٍ مع أطرافٍ هي في نزاعٍ مع الوطن. ومتى تصالحت هذه الأطراف مع الوطن، يلتقي الجميع ويتوحّد لبنان على الفور.
فإنشاء لبنان قام على مفهوم التعايش لا على مفهوم الانتصار والهزيمة بين مكوّناته. وإذا كان من انتصارٍ ينتظرنا فهو الانتصار على ذواتنا، فنُزيل منها الكراهية والأحقاد ونزعة الهيمنة على بعضنا البعض، فنستعيد رونق لبنان ونحيا في ظلّ الحرّية والأمن والكرامة. ومن يتوهّم داخليًّا أو خارجيًّا أنّه يستطيع أن يتصرّف انطلاقًا من معادلة الانتصار والهزيمة يُخطئ التقدير وهو مهزومٌ سلفًا. فكلّما اشتدّت التحدّيات، زاد الصمود في وجه المخطّطات، وصولًا إلى إنقاذ لبنان وتثبيت وجوده. ولن نغيّر عاداتنا، من أجل كل لبنان وجميع اللبنانيين.
يجوز لكل مواطنٍ أو جماعةٍ أن يعمل على تطوير الدولة والمجتمع ووضعهما على سكّة الازدهار والتقدّم. أمّا أن يعيد النظر في إيمانه وولائه وانتمائه إلى الوطن الذي يحمل هويّته، فليس كذلك تبقى الأوطان وتتطوّر نحو الأمام.
أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء
11.ثلاثة تلقّوا خبر ميلاد المسيح المخلّص والملك الجديد: الرعاة وعلماء الفلك وهيرودس الملك.
رعاة بيت لحم تلقّوه من فم الملاك، فآمنوا وجاؤوا مسرعين في ظلمة الليل إلى المذود حاملين هداياهم: الحليب للطفل، والحمل ليوسف، وكلمة البشرى لمريم (مار أفرام). وعلماء الفلك-المجوس قرأوا الخبر في حركة النجوم، فآمنوا وأسرعوا من بلادهم إلى المكان البعيد في المشرق على هدي النجم، حاملين هم أيضًا هداياهم النبويّة: الذهب للملك، والبخور للكاهن، والمرّ للفادي. وهيرودس الملك بلغه الخبر من المجوس وتأكد من مكان الحدث من علماء الكتب المقدّسة، فخاف على كرسي ملكه، وامتلأ قلبه حسدًا وحقدًا، فأرسل جنوده وأمر بقتل جميع أطفال بيت لحم من ابن سنتَيْن فما دون، لعلّه يكون بينهم الطفل «ملك اليهود» (راجع متى 2).
(تستمر القصة أدناه)
اشترك في نشرتنا الإخبارية
الرعاة والمجوس هم جماعة الرجاء وانتظار تجلّيات الله، أمّا هيرودس الملك فيمثّل جماعة الممتلئين من ذواتهم، الغارقين في مصالحهم، المنتزعين الله وكلامه وإيحاءاته وعلاماته من قلوبهم وعقولهم وأفكارهم.
12.وُلِدَ المسيح فقيرًا في مذود حقير لكي نراه ونخدمه ونعبّر له عن حبّنا في الفقراء و«إخوة المسيح الصغار»: الجياع والعطاش والعراة والغرباء والمرضى والسجناء (راجع متى 25: 35-40) ماديًّا وروحيًّا ومعنويًّا. نجد المثال في رعاة بيت لحم ومجوس المشرق. وهذا ما أنتم ونحن فاعلون تجاه إخوتنا وأخواتنا في حاجاتهم في الرهبانيّات والأبرشيّات والرعايا والمؤسّسات، وما نحن كلّنا مدعوّون لمضاعفته من خدمة للمحبّة. أمّا هيرودس، فمتمثّل اليوم في المسؤولين السياسيين والنافذين الممعنين في قتل شعبنا بإفقاره وحرمانه وتشريده، وبتعطيل انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة، وتفكيك المؤسّسات الدستوريّة، والحؤول دون تصويب الإدارة وحوكمتها، وإحياء النهوض الاقتصادي وإجراء الإصلاحات ولجم الدولار.
لكن رجاءنا بالمسيح، سيّد العالم، لا يخيّب ولا يتزعزع.
وُلِدَ المسيح، هللويا!
تأسست وكالة الأنباء الكاثوليكية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا "آسي مينا" في 25 آذار 2022، عيد بشارة السيّدة مريم العذراء، بعد عام واحد على الزيارة التاريخية للبابا فرنسيس إلى العراق. "آسي مينا" جزءٌ من مجموعة CNA/ACI، وهي إحدى خدمات أخبار EWTN.