لم يجبهم يسوع عن هذه الأسئلة الثلاثة، بل نبّههم عن المخاطر والضيقات والحروب والمجاعات والخيانات والبغض والانقسامات وجفاف المحبّة في القلوب، وتعليم المضلّلين الذين سمّاهم «المسحاء الكذبة». ودعاهم إلى الصمود بالصبر من أجل الخلاص. وأنهى بالجواب الأساس وهو: «وجوب الكرازة بإنجيل الملكوت في المسكونة كلّها، شهادة لجميع الأمم، وحينئذٍ تكون النهاية» (متى 24: 14). ما يعني أنّ العالم بحاجة إلى إنجيل المسيح لكي تنتشر ثقافة المحبّة والأخوّة والسلام بين جميع الشعوب. فإنّ الله لا يريد هلاك البشر بل «خلاصهم ومعرفة الحقيقة» (راجع 1 تيموتاوس 2: 4).
2.يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة، فأرحّب بكم جميعًا، وبخاصّة بـ«مؤسّسة المقدّم المغوار الشهيد صبحي العاقوري» التي أنشأتها زوجته ليا لذكراه وذكرى شهداء الجيش اللبناني، تحت شعار: «لله رجال، إن هم أرادوا، أراد». نحيّيها مع أولادها الأربعة ومعاونيها. تُعْنَى المؤسّسة كما تعلمون بأطفال شهداء الجيش وعائلاتهم، فتقوم بنشاطات لصالحهم مثل السفر إلى الخارج وتنظيم رحلات ومخيّمات ترفيهيّة ودورات تثقيفيّة وجوقة تراتيل وأغاني هذه الجوقة تحيي هذا القداس اليوم، بالإضافة إلى إنشاء حدائق عامّة، وتجهيز قاعات في ثكنات عسكريّة. وأنشأت لها فرعًا في إيطاليا للتبادل الثقافي والحضاري. بارك الله هذه المؤسّسة وحمى جيشنا اللبناني وسائر الاجهزة العسكريّة، ورحم الله شهداءه، وآسى عائلاتهم، وشملهم بنعمة عنايته الإلهيّة.
3.يدعونا الربّ يسوع في إنجيل اليوم لندرك أنّ المصاعب والمحن في هذه الحياة عابرة، وتقتضي منّا الصمود بوجهها بالصبر. فيؤكّد لنا صريحًا: «من يصبر إلى المنتهى يخلص» (متى 24: 13) لكنّنا نعلم أنّه يعضدنا بنعمته. ويدعونا لنميّز صوته وصوت الكنيسة من أصوات «المسحاء الكذبة» الذين يضلّون الناس بتعليمهم المضاد للإنجيل ولتعليم الكنيسة التي هي المؤتمنة وحدها على التعليم الصحيح.
4.تمّت نبوءة يسوع عن خراب هيكل أورشليم على يد الرومان سنة 70. ولم يبقَ منه سوى «حائط المبكى». ولم يعد بإمكان اليهود بناؤه من جديد حتى يومنا. ذلك أنّه فقد مبرّر وجوده بعدما قتل يسوع هذا الشعب ربّ الهيكل. وبالتالي، انتُزعت من اليهود الخدم الثلاث: النبوءة والكهنوت والملوكيّة وأُعطيت للكنيسة. أمّا الهيكل الحقيقي الذي يريده الله فهو الإنسان، على ما قال القديس إيلاريون أسقف بواتييه «إنّ الربّ يسوع يؤكّد بجوابه وجوب هدم كلّ شيء في الهيكل وتدمير حجارة الأساسات وبعثرتها لأنّ هيكلًا أبديًّا سيكرّس للروح القدس، وهذا الهيكل الأبدي هو الإنسان الذي يستحقّ أن يكون سكنى الله».
5.مجتمعنا اللبناني يحتاج إلى ثقافة الإنجيل، إنجيل المحبّة والأخوّة والعدالة والسلام، إنجيل قدسيّة الحياة البشريّة وكرامتها، إنجيل النور لهداية ضمائر المسؤولين عندنا. فنتساءل: بأي راحة ضمير، ونحن في نهاية الشهرِ الأوّل من المهلة الدستوريّة لانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة، والمجلس النيابي لم يُدْعَ بعد إلى إيّ جلسةٍ لانتخاب رئيسٍ جديد، فيما العالم يشهد تطوراتٍ مهمّة وطلائع موازين قوى جديدةٍ من شأنها أن تؤثّر على المنطقة ولبنان؟ صحيحٌ أنّ التوافق الداخلي على رئيسٍ فكرةٌ حميدةٌ، لكن الأولويّة تبقى للآليّة الديمقراطيّة واحترام المواعيد، إذ إنّ انتظار التوافق سيفٌ ذو حدّين، خصوصًا أنّ معالم هذا التوافق لم تَلُحْ بعد. إنّ انتخاب الرئيس شرطٌ حيويٌّ لتبقى الجمهوريّة ولا تنزلق في واقع التفتّت الذي أَلَمَّ بدول محيطة. لا يوجد ألفُ طريقٍ للخلاص الوطني والمحافظة على وحدة لبنان بل طريق واحد هو انتخاب رئيس للجمهوريّة بالاقتراع لا بالاجتهاد، وبدون التفافٍ على هذا الاستحقاق المصيري. إنّ الدساتير وُضِعَتْ لانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة، لا لإحداث شغور رئاسي. فهل الشغور صار عندنا استحقاقًا دستوريًّا، لا الانتخاب؟
6.لبنان يحتاج اليوم لكي ينهض حيًّا إلى حكومةٍ جديدة تخرج عن معادلة الانقسام السياسي القديم بين 8 و14 آذار، وتمثّل الحالة الشعبيّة التي برزت مع انتفاضة 17 تشرين، ومع التنوّع البرلماني الذي أفرزته الانتخابات النيابيّة في 15 أيّار الماضي. إنّ الظروف تتطلّب حكومة وطنيّةً سياديّةً جامعةً تحظى بصفةٍ تمثيليّةٍ تُوفّرُ لها القدرة على ضمان وحدة البلاد، والنهوض الاقتصادي، وإجراء الإصلاحات المطلوبة. فلا يمكن والحالة هذه أن تبقى الحكومة حكومةً فئويّةً يقتصر التمثيلُ فيها على محورٍ سياسيٍّ يتواصل مع محور إقليمي. ولا تستقيم الدولة مع بقاء حكومة مستقيلة، ولا مع حكومة مرمّمة، ولا مع شغور رئاسي لأنّ ذلك جريمة سياسيّة وطنيّة وكيانيّة.