بيروت, الجمعة 10 مايو، 2024
لبنان يغلي... البطريركيّة المارونيّة تستعدّ لإصدار «وثيقة موقف»، والشارع المسيحي يتحرّك على أكثر من جبهة لإجهاض ما وصفه بـ«الصفقة المشبوهة». حزمة مساعدات ماليّة من الاتحاد الأوروبي أشعلت لبنان ورسمت علامات استفهام حول «أجندة أوروبيّة» لتوطين أكثر من مليون ونصف مليون نازح سوري.
عاد ملفّ «النازحين السوريّين» في لبنان إلى الواجهة بقوّة، بعدما أعلنت رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي أورسولا فونديرلاين عن هبةٍ للبنان بقيمة مليار يورو تمتدّ حتى العام 2027. صحيحٌ أنّ الهبة حملت في ظاهرها عنوان «دعم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في لبنان»، إلّا أنّ مضمونها لم يُقرأ من مسيحيّي البلاد بهذه البساطة والبراءة. فما لم تأتِ رئيسة المفوضيّة على ذكره في خلال زيارتها والرئيس القبرصي بيروت الأسبوع الماضي، ما غاب عن الجهات الكنسيّة والسياسيّة القلقة من مساعٍ أوروبيّة خفيّة لضمان بقاء النازحين السوريين في لبنان.
هجرة موسميّة للّبنانيّين
شكوكٌ مسيحيّة عزّزها رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانيّة نجيب ميقاتي بعدما خرج بتصريحٍ مثير للجدل. فقد أشار ميقاتي إلى أنّ «مع انضمام لبنان إلى القانون الذي يشمل الدول المستضيفة للنازحين السوريين سيُفتح المجال أمام اللبنانيين لهجرة عمل موسمية إلى دول الاتحاد الأوروبي». تصريحٌ قرأ فيه المسيحيّون «مقدّمة لبيع لبنان» تمهيدًا لإبقاء النازحين في أرضه وإبعاد «شبح الهجرة غير الشرعية» عن الاتحاد الأوروبي ودوله المنهَكة.
وفيما خرجت جميع الكتل المسيحيّة وقادتها بكلمة موحّدة -وهو نادرًا ما يحصل- رفضًا لأيّ خطّة توطين، رفع البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي سقف خطابه. فقد دعا الراعي في عظة قدّاس الأحد الماضي إلى «توحيد الكلمة في قضية تأمين عودة النازحين السوريين إلى وطنهم وعدم الرضوخ للضغوط الأوروبية والدولية وأساليبها المغرية بهدف تجنّب عودتهم وإبقائهم في لبنان لأهداف سياسية ليست لصالحهم ولا لصالح لبنان». كلام رأس الكنيسة المارونية كان له وقع واسع النطاق بعدما تبنّى سرديّة «رشوة لبنان»، ما دفع ميقاتي إلى طمأنته والجميع بعدم وجود صفقة في ملف النازحين.
تلك الطمأنة لم تُثلج قلب سيّد بكركي الذي يواصل الدفع في اتّجاه حسم معالجة هذه الأزمة في أسرع وقت. وعلى درب المساعي التي يقودها الراعي بنفسه، استضافت بكركي أمس طاولة مغلقة نظّمها المركز الماروني للتوثيق والأبحاث، وشارك فيها أعضاء اللجان الاستشارية القانونية والدستورية والوزراء المعنيون بملفّ النزوح. وخلصت المناقشات إلى التوصية بعقد لقاء مع منظمات الأمم المتحدة المختصّة وعدد من سفراء منظمات ودول مؤثرة، تمهيدًا لإصدار «وثيقة موقف» من بكركي في موضوع النازحين السوريين وسُبل عودتهم الكريمة إلى وطنهم.
وقبل أن تفجّر الهبة الأوروبيّة شكوك الشارع المسيحيّ، حضر ملفّ النزوح بزخم على طاولة المطارنة الموارنة في اجتماعهم الشهريّ. فجدّدوا رفضهم «رغبة بعض المراجع الدولية في إبقاء النازحين السوريين على أرض لبنان من دون الاهتمام بما يجرّه ذلك على البلد مِن أخطار مصيريّة تُهدّد كيانه ودولته».
صفقة مشبوهة؟
لم تقتصر موجات الغضب على قادة الكنيسة والأحزاب المسيحيّة، بل انسحبت على الشارع برمّته. فعبّر أبناء الوطن وبناته عن رفضهم ترك لبنان للآخرين. وانتشرت على منصات التواصل الاجتماعي شعارات أبرزها: «لبنان ليس للبيع»، وحملات تدعو إلى إعادة النازحين غير الشرعيين إلى بلادهم فورًا، وأخرى تعِد بتحرّكات ميدانيّة.
أمام حدّة الهجوم غير المسبوق إزاء ما سمّاه المسيحيّون «صفقة مشبوهة»، سارع ميقاتي إلى تصحيح الموقف في بيان صدر عن مكتبه الإعلامي نفى فيه أيّ حديث عن رشوة أوروبية للبنان بغية إبقاء النازحين على أرضه، مؤكّدًا أنّ هذه الهبة غير مشروطة.
ووضع ميقاتي الحملة السياسية والإعلاميّة ضدّه في خانة «محاولة استثارة الغرائز والنعرات، أو من باب المزايدات الشعبية». لم يقتنع اللبنانيون بالتوضيح الذي خرج به رئيس حكومتهم، ما دفعه إلى الاستنجاد برئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري متمنّيًا عليه «الدعوة إلى جلسة نيابية عامة لمناقشة موضوع النازحين من أجل وقف الاستغلال السياسي». مضت ساعات قبل أن يستجيب الأخير ويدعو إلى جلسة لمناقشة الهبة الأوروبية في 15 مايو/أيار الجاري.
يحدث ذلك كلّه على وقع فلتانٍ أمنيّ وجرائم متنقّلة في مناطق مختلفة، يتبيّن تورّط عددٍ من النازحين السوريين فيها. تبقى أبرزها جريمة خطف مسؤول في حزب القوات اللبنانية (حزب مسيحي وازن برلمانيًّا وشعبيًّا) يوم 7 أبريل/نيسان الماضي وقتله في سوريا. جريمة تلتها حوادث مشابهة آخرها إقدام شابٍ سوريّ على قتل فتاةٍ لبنانيّة تعمل في أحد فنادق بيروت، إضافةً إلى طعن ثلاثة أطفال سوريّين طفلًا لبنانيًّا في إحدى ضواحي بيروت المسيحيّة.
الكرة إذًا في ملعب حكومة تصريف الأعمال والمجلس النيابي لجهة قبول الهبة أو رفضها. فمن جهةٍ، يبدو لبنان بأمسّ الحاجة إلى دعمٍ ماليّ في هذه الظروف الاقتصاديّة الصعبة؛ ومن جهةٍ أخرى، قد لا يغامر أيّ فريق بالتصويت لصالح هذه الهبة التي تلفّها عشرات التساؤلات، لا سيّما في الشارع المسيحيّ المتوجّس.
بالأرقام: النازحون السوريّون في لبنان
يُذكَر أنّ أرقام المفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تشير إلى وجود نحو 1.5 مليون لاجئ سوريّ على الأراضي اللبنانيّة، قرابة نصفهم فقط مسجّلون لدى المفوضيّة. فيما تفيد جهاتٌ سياسيّة وأمنيّة لبنانيّة بأنّ الرقم يتجاوز المليونَين. وتتبدّل هذه المعطيات الرقمية بين فترةٍ وأخرى بفعل التنقّل المفتوح عبر الحدود اللبنانية السورية دخولًا وخروجًا. ولكن، تسليمًا برقم المفوضيّة، يحتضن لبنان أكبر عدد من اللاجئين السوريين مقارنةً بمساحته (10452 كيلومترًا مربّعًا). وفي معادلة حسابيّة بسيطة، يشكّل هؤلاء ما يقارب ثلث عدد سكّانه.
اشترك في نشرتنا الإخبارية
في وكالة آسي مينا الإخبارية (ACI MENA)، يلتزم فريقنا بإخبار الحقيقة بشجاعة ونزاهة وإخلاص لإيماننا المسيحي حيث نقدم أخبار الكنيسة والعالم من وجهة نظر تعاليم الكنيسة الكاثوليكية. عند الإشتراك في النشرة الإخبارية لآسي مينا (الوكالة الكاثوليكية الإخبارية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا)، سيتم إرسال رسالة يومية عبر البريد الإلكتروني تحتوي على روابط الأخبار التي تحتاجونها.
اشترك الآنرسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!
تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته