بكركي, الأحد 25 فبراير، 2024
أكّد البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي أنّ «التعمّد في إطالة عمر الفراغ الرئاسي كشف نوايا المعطّلين المستفيدين منه، فبتنا نشهد انهيارًا شبه كامل في مؤسسات الدولة وإداراتها وفوضى عامة سمحت لكثيرين من المسؤولين بالتمادي والاستئثار بالسلطة إلى حدّ التسلّط والتجبّر والاستنسابية».
وأشار الراعي في خلال ترؤسه قداس أحد شفاء المرأة النازفة اليوم في الصرح البطريركي، بكركي إلى «تشويهات في مضمون الدستور وتطبيقه، وتشويهات في العيش المشترك، وتشويهات في ميزة الوحدة في التنوّع. ولبنان في جميع هذه الحالات آخذ في الانهيار، والسقف ينذر بسقوطه على رؤوس الجميع».
وجاء في عظة الراعي ما يأتي:
«يا ابنتي إيمانك أحياكِ....يا يائيرس يكفي أن تؤمن فتحيا ابنتك» (لو 8: 48 و50)
1. آيتان أساسهما الإيمان المصلّي بصمت. المرأة المصابة بنزيف دم منذ اثنتي عشرة سنة، وأنفقت كلّ مالها على الأطبّاء من دون جدوى، آمنت بأنّ يسوع قادر أن يشفيها من دون أن تلتمس هذا الشفاء بالكلام... فعلّمها إيمانها أنّها تستطيع نيل نعمة الشفاء إذا تمكّنت من لمس طرف ردائه. فكان الشفاء. فامتدح يسوع قدرة إيمانها قائلًا: «تشجّعي يا ابنتي، إيمانك أحياكِ» (لو 8: 48).
ويائيرس رئيس المجمع، الذي كان يصطحب يسوع إلى بيته ليشفي ابنته الصبيّة المشرفة على الموت، إيمانًا منه بأنّ يسوع قادر على شفائها، لمّا وصله الخبر بأنّها ماتت ولا حاجة لإزعاج يسوع، بادره الربّ بالقول: «لا تخف، آمن فقط، وابنتك تحيا» (لو 8: 50). آمن يائيرس وأكمل الطريق بصحبة يسوع إلى بيته. فأحيا ابنته من الموت، إذ «أمسك بيدها وناداها: يا صبيّة قومي. فعادت للحال روحها إليها وقامت» (لو 8: 54-55).
امرأتان شفاهما يسوع بعمرين مختلفين: واحدة بعمر اثنتي عشرة سنة، وواحدة بعمر مكتمل. وبذلك أعلن الربّ كرامة المرأة التي خلقها الله متساوية مع الرجل، منذ البدء، وحافظت الكنيسة على حماية كرامتها بالتعليم والمعاطاة. وهذا ما نرجو أنّ يعمّ جميع المجتمعات.
2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة التي هي سرّ الإيمان ومعينه. ويطيب لي أن أحيّيكم جميعًا. وأوجّه تحيّة خاصّة لعائلة المرحوم جورج أنطوان مخايل، المقدّم المتقاعد في شرطة مجلس النوّاب. وقد ودّعناه منذ عشرة أيّام مع زوجته السيّدة ميراي عون وابنته الوحيدة المحامية كاترين، ووالده وشقيقيه وشقيقته وأهالي جرنايا الشوفيّة الأعزّاء. نصلّي في هذه الذبيحة المقدّسة لراحة نفسه، وعزاء أسرته.
3. تمثّل المرأة النازفة كلّ إنسان ينزف من جرّاء معاناة في جسده أو روحه أو معنويّاته أو أخلاقه. وتمثّل كلّ مجتمع ينزف في حضارته وتقاليده وقيمه، وكلّ وطن ينزف في سيادته وهويّته واقتصاده وأمنه وكرامته. إنّ شفاءها هو مثال لإمكانيّة شفاء كلّ شخص منّا، وشفاء مجتمعنا ووطننا بالنعمة الإلهيّة.
هذا النزيف يحطّ من الكرامة ويؤدّي إلى الموت. كانت الشريعة القديمة تعتبر المرأة بنزيف دمٍ دائم نجاسة. وألزمتها بعدم المسّ بأيّ شيء أو لمس أيّ شخص لئلّا يتنجّس. لهذا السبب جاءت من وراء يسوع بصمت وخفر ومسّت طرف ردائه، إيمانًا منها بقوّة يسوع على شفائها، ويقينًا أنّها لم تخالف الشريعة (راجع سفر الأحبار 15: 19-33).
ربّنا يسوع العالم بكلّ شيء وبنوايا البشر، طرح السؤال: «من لمسني؟ شعرت أنّ قوّة خرجت منّي!» (لو 8: 45-46). أراد بذلك إعلان ثلاثة: أوّلًا، عدم مخالفة المرأة للشريعة بلمسها طرف ردائه، لأنّ الشريعة وُضعت للإنسان، لا الإنسان للشريعة، ولأنّ نيّتها الشفاء من يسوع لا نقل الشرّ إليه. ثانيًا، الشهادة لإيمانها العميق الذي أوحى إليها هذا التصرّف المرهف تجاه يسوع والجمع الغفير، ولهذا السبب لم تصرخ إليه طالبةً شفاءها. ثالثًا، إعلاء كرامة المرأة من خلال شفاء النازفة المعتبرة نجاسة في عائلتها ومجتمعها، وبالتالي، تعيش حالة الإقصاء من دون أيّ إعتبار.
4. ندّدت الكنيسة في غير وثيقة، بكلّ ما ينتهك كرامة المرأة. نذكر منها رسالة القدّيس البابا يوحنّا بولس الثاني «إلى النساء»، ووثيقتين للمجلس الحبريّ لوسائل الإعلام: «الإباحيّة والعنف في وسائل الإعلام»، و«آداب الدعاية وأخلاقيّتها».
في الرسالة إلى النساء (1995)، نجد إشارة إلى معاناة المرأة من شروط قاسية جعلت طريقها صعبة، وانتقصت من كرامتها، وشوّهت ميزاتها، وأدّت إلى تهميشها واستبعادها. فلم تتمكّن من تحقيق ذاتها بكلّ معنى الكلمة، وحرم المجتمع من عبقريّتها الروحيّة والإنسانيّة والاجتماعيّة.
أمّا وثيقة الإباحيّة والعنف في وسائل الإعلام (1989)، فتكشف عن الظاهرات الإباحيّة التي تتفشّى عبر الكتب والمجلّات والسينما والمسرح والتلفزيون وأشرطة الفيديو والدشّ والإنترنت، وتسيء إلى الشبان والفتيات والقاصرين.
5. للكنيسة تعليم مميّز عن كرامة النساء وحقوقهنّ ورسالتهنّ، لما يمثّلن في حياة البشريّة: المرأة الأمّ قابلة الكائن البشريّ وهاديته، والمرأة الزوجة معطية ذاتها لزوجها من أجل وحدة الحبّ والحياة، والمرأة العاملة المساهمة في بناء المجتمع ثقافيًّا وروحيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، والمرأة المكرّسة التي تقف ذاتها على خدمة الله وجميع الناس.
6. الإيمان عطيّة مجّانيّة من الله لكلّ إنسان، لكي يستحضره في حياته، تأتي أفعاله في إطار الحقيقة والخير والجمال. هذا الإيمان يحتاج إلى إنمائه وتغذيته بكلام الله في الكتب المقدّسة، وإلى المحافظة عليه بالصلاة والممارسة الدينيّة. تساءل الربّ يسوع ذات مرّة أمام تلاميذه: «إذا عاد ابن الإنسان، أتراه يجد إيمانًا على الأرض؟» (لو 18:8).
عندما يغيب الإيمان يكثر الشرّ. فبغيابه يُحجب وجه الله وكلامه، ويُبدلان بعبادة الذات والمصالح والشهوات، والمال، وروح الشرّ، وحبّ السيطرة والاستبداد، والاستكبار، ومخالفة وصايا الله ورسومه، وكأنّها غير موجودة. هذا هو مكمن الشرّ عندنا في لبنان: تغييب الله والحلول محلّه، يغلّبان الشرّ على الخير، والباطل على الحقّ، والظلم على العدل، والمصلحة الخاصّة على الخير العامّ، التشويه على التجميل.
هذا كلّه، مع بعض الاستثناءات حاصل عندنا على مستوى الأداء السياسيّ، والمؤسّسات الدستوريّة، والإدارات العامّة. تشويهات في مضمون الدستور وتطبيقه، تشويهات في العيش المشترك، تشويهات في ميزة الوحدة في التنوّع. ولبنان في كلّ هذه الحالات آخذ في الانهيار، والسقف ينذر بسقوطه على رؤوس الجميع. فعودوا إلى الله أنتم الذين تتسبّبون في جميع هذه التشويهات.
7. إنّ التعمّد في إطالة عمر الفراغ الرئاسي كشف نوايا المعطّلين المستفيدين منه، فبتنا نشهد انهيارًا شبه كامل في مؤسسات الدولة وإداراتها وفوضى عامة سمحت لكثيرين من المسؤولين بالتمادي والاستئثار بالسلطة إلى حدّ التسلّط والتجبّر والاستنسابية ضاربين بعرض الحائط الميثاق الوطني ونموذجيّة لبنان القائمة على التنوع في الوحدة والعيش الواحد، فأطاحوا الأصول والأصالة اللبنانية.
إنّ الاستمرار في هذا النهج المنحرف يهدد بشكل خطير الوحدة الوطنية التي نحن بأمسّ الحاجة إليها اليوم، وسلامة المجتمع اللبناني ويسيء إلى كرامة الشعب المتروك من دون رأس لدولته.
إن التمنّع والتباطؤ في انتخاب رئيس للجمهورية يشكلان مخالفة فاضحة للدستور ويحمّلان المتسببين فيها مسؤولية التفكك الحاصل والانهيار المستمر واستسهال مخالفة القوانين من قبل مسؤولين آخرين حتى باتت القوانين وجهة نظر أو لائحة مواد يمكن الاختيار منها واستنساب ما يخدم مصالحهم وشعبويتهم ويناسب محسوبياتهم وطوائفهم، حتى لو أدى ذلك إلى إدانة بريء أو تبرئة مرتكب أو ظلم موظف ذي كفاءة لا يساوم على الحق والاستعاضة عنه بآخر أقل كفاءة وموالٍ لهم، والأخطر من كلّ ذلك حين يجري الاستبدال على قاعدة دينية أو طائفية.
8. وما القول عن قضية الدوائر العقارية في جبل لبنان المقفلة منذ نحو عام ونصف! فالتأخير في اتخاذ الخطوات العملية والجدية لإعادة العمل إلى طبيعته ينذر بما هو خطير ومرفوض وسط الكلام عن بيوعات وتجاوزات حاصلة تحت جنح الظلام. فضلًا عن الخسائر الناجمة عن هذا التعطيل التي تطال خزينة الدولة وأكثر من 63 مهنة وقطاعًا. إنّنا نحمّل المعنيين بهذا الشأن مسؤولية هذا التقاعس ونطالبهم بإعادة فتح الدوائر العقارية في جبل لبنان من أجل تأمين مصالح المواطنين وعودة هذا الشريان الحيوي إلى طبيعته.
وفي مجال آخر، وبما أنّ معظم القوى السياسية متفقة على ضرورة إصلاح جهاز الجمارك نظرًا إلى أهمية دوره وإيراداته للخزينة العامة، فإنّنا نطالبها بتحمّل مسؤولياتها الوطنية وإقرار الإصلاحات الجمركية اللازمة، والحؤول دون الشغور في الملاك المحدود للضابطة الجمركية، والمباشرة بملئه عبر مباراة تراعى من خلالها الكفاءة والمناصفة.
جميع هذه المواضيع وغيرها من الإصلاح والمال والاقتصاد والإدارة تحتاج إلى انتخاب فوري لرئيس للجمهورية يتولى قطع الطريق على أي معادلات داخلية وخارجية وتسويات قد تأتي على حساب لبنان وسيادته ومصلحة شعبه.
(Story continues below)
اشترك في نشرتنا الإخبارية
في وكالة آسي مينا الإخبارية (ACI MENA)، يلتزم فريقنا بإخبار الحقيقة بشجاعة ونزاهة وإخلاص لإيماننا المسيحي حيث نقدم أخبار الكنيسة والعالم من وجهة نظر تعاليم الكنيسة الكاثوليكية. عند الإشتراك في النشرة الإخبارية لآسي مينا (الوكالة الكاثوليكية الإخبارية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا)، سيتم إرسال رسالة يومية عبر البريد الإلكتروني تحتوي على روابط الأخبار التي تحتاجونها.
اشترك الآن9. فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات، لكي يوقظ الله الإيمان في جميع الناس، ولا سيما في قلوب حكّام الأرض والوطن، فيسير الجميع في هديه إلى كلّ خير. فيتمجّد الثالوث القدّوس، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد. آمين.
رسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!
تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته