حلب, الجمعة 13 يناير، 2023
المطران المنتخَب يعقوب مراد، أو كما يلقّبه أبناء رعيّته «بابا»، هو من أبناء سوريا الجريحة ومن أعظم الشاهدين على مأساتها وحربها، نظرًا إلى عيشه تجربة شخصيّة مؤلمة تمثّلت في خطفه على يد تنظيم داعش في العام 2015. على الرغم من ذلك، لم ييأس بل حمل رسالة الكاهن المسيحي على الطريق الذي ينتهي في قلب الله وحضن رحمته، مشدّدًا على أن الإنجيل المقدّس أداة السلام.
في مقابلة حصريّة أجرتها «آسي مينا»، تحدّث رئيس أساقفة أبرشيّة حمص وحماة والنبك وتوابعها للسريان الكاثوليك المطران يعقوب مراد عن عمليّة اختطافه، مسلّطًا الضوء على الحكمة الإلهيّة التي أنقذته من الموت كي يستطيع إكمال رسالته الأسقفيّة في دير مار موسى الحبشي بين إخوته وأبنائه في سوريا.
داعش يختطف المطران مراد
روى المطران مراد وقائع اختطافه على يد تنظيم داعش في مايو/أيّار 2015، قائلًا: «اختُطِفْتُ من داخل دير مار إليان في منطقة القريتين وأخذ الخاطفون مفتاح سيارتي منّي، وبقيتُ أنا وشاب مسيحي من مدينة حلب مربوطَيْن أربعة أيّام فيها دون أن نعلم ما الذي سيحدث لنا».
وأضاف: «في أحد العنصرة، نُقِلْتُ إلى مدينة الرقّة، وكنتُ أتلو صلاة المسبحة الورديّة طوال الطريق، وأستمع إلى ذلك الصوت الداخلي القويّ الذي يؤكد لي أنني ذاهبٌ إلى الحرّية».
منذ 21 مايو/أيّار حتى 11 أغسطس/آب 2015، بقي المطران مراد سجينًا لدى داعش في مدينة الرقّة، وكان يشعر بأن نهايته اقتربت لكن السلام الداخلي لم يفارقه أبدًا. في 11 أغسطس/آب من العام عينه، زاره أحد جهاديّي تنظيم داعش، سائلًا إيّاه: «هل أنتَ الذي يدعونه بابا؟»، فردّ عليه بالإيجاب. وعندئذٍ، طلب الجهادي منه تجهيز نفسه. شكّل هذا اللقاء مفترق طريق مؤلمًا بالنسبة إلى مراد بسبب حيرته الشديدة، فهل سيُقْتَل؟ أم سيُفْرَج عنه ويذهب للاطمئنان على أبنائه؟ من ثمّ، قرّر الجهادي الداعشي إرساله إلى تدمر حيث التقى بـ250 مسيحيًّا من رعيّته.
تعرّض مراد لتعذيبٍ نفسيٍّ مُمنهج فقد نُعِتَ بالكافر والضالّ، ووُجّهت إليه شتائم كثيرة. وعلى الرغم من الإهانة والذلّ المستمرَّيْن، لم يردّ السوء بالسوء، موضحًا أننا نحن المسيحيين لا نعيش حسب شريعة حمورابي «العين بالعين والسنّ بالسنّ» بل بحسب محبّة الله.
تلاميذ المسيح وشركاء في الألم
وشدّد المطران مراد على دور أمّنا مريم العذراء والحكمة الإلهيّة في طريقه لنيل الحرّية، قائلًا: «إن الحكمة الإلهيّة بالنسبة إلينا، نحن تلاميذ المسيح، تتجلّى في أننا جزءٌ من هذا المجتمع السوري الجريح، فنحن شركاء في الألم الذي عاشه كل مواطن مسيحي أو مسلم أو حتى من الإكليروس الكنسيّ في ظلّ الحرب السوريّة، ومن الطبيعي أن نتعرّض للخطف أو القتل». وطلب الرحمة الإلهيّة لأنفس الأبوَيْن فرانسوا مراد وفرانس فاندرلوخت شهيدَي الكنيسة الحديثة المتألّمة، ولأسقفَي حلب والأب باولو دالوليو المجهولي المصير.
وتابع مراد: «هنا يتجلّى دور الكنيسة في فهمها لدعوتها إلى التضامن مع رعاياها، من أصغر عضو فيها إلى أكبرهم، ومن ثمّ دعوتها إلى التضامن مع بقيّة الأطياف المختلفة كشعبٍ واحد مؤمن بالله، فإذا انتشر الجوع أو المرض أو عمّ الخير والسلام، سيشمل ذلك الجميع بلا استثناء».
هكذا نجا المطران مراد وباقي الأسرى
قبل تحرير المطران مراد، مَنَحَهُ الجهادي الداعشي «المَنّ» أي أنه تحنَّن عليه وعلى باقي الأسرى فأصدر قرارًا قضى بإبقاء الجميع على قيد الحياة بدل قتلهم في مقابل توقيعهم اتفاقيّة العيش ضمن حدود «الدولة الإسلاميّة» ودفع الجزية لها. هنا بقي سؤال «لماذا تمّ المَنُّ علينا؟» يراود مراد، فطَرَحَه على الجهادي الذي أجابه: «إن المسيحيين في المنطقة لم يحملوا السلاح ضدّ الدولة الإسلاميّة، وعند تفتيش منازلهم لم نجد قطعة سلاح واحدة».
وبحسب مراد: «الرسالة الأسمى للمسيحيين تتمثّل في حمل السلام إلى جميع من حولهم، فالله ميّزنا عن باقي المخلوقات باللسان والعقل، وكل إنسان مسيحي صادق يستطيع إيجاد وقعٍ لكلمته لدى الآخر من دون استخدام السلاح أو العنف».
الله يعمل في قلوب جميع البشر
لم ينسَ المطران مراد الاعتراف بفضل جاره الشاب المسلم الذي قرّر المخاطرة بحياته لتهريبه على درّاجته الناريّة إلى خارج منطقة القريتين وتحريره من قبضة تنظيم داعش. وقال: «بدأتُ في التفكير بهذه الطريقة وبما إذا كانت ممكنةً وناجحة، وهل أستطيع مساعدة جميع الأسرى وإطلاق سراحهم وتهريبهم من بين أيدي داعش؟ وضعتُ نفسي بكامل إيماني بين يدَي الربّ والعذراء، وصلّيتُ لتتحقّق مشيئته لا مشيئتي، حتى لو كانت تعني موتي».
وبعد نجاته، تأمّل مراد في عمل الله القدير الذي يسخّر أشخاصًا ليسوا بالضرورة مسيحيين لتحقيق مشيئته إذ إنه يعمل في قلوب جميع البشر، والجميع مدعوّون إلى القداسة، فهي عطيّة إلهيّة يمنحها الربّ لمن يشاء، لكننا نحن المسيحيين يجب علينا بذل مجهود أكبر من الباقين.
رسالة سلام يحملها المطران مراد
وأمل المطران مراد أن يعيش جميع المؤمنين المسيحيين رسالة الزهد وعدم التمسّك بالأمور الدنيويّة لأن هذا التجرّد يمنحنا الحرّية الكاملة. وقال: «إن طريق المؤمن المسيحي لا ينتهي إلا في قلب الله وحضن رحمته. لنتبعه إلى الصليب والموت كي ننال الملكوت السماوي ونحيا معه في سعادة أبديّة، ولنحرّر قلوبنا من التعلّق بالأمور الأرضيّة، فنحن بحاجة إلى رفض العنف والأذى والشرّ. ولنَعِش الإيمان بالإنجيل المقدّس ولنَكُن أدوات لنشر السلام».
ورفع صلاته على نيّة جميع رجال الدين والمسؤولين والسياسيين والمدنيين كي ينعم الربّ عليهم بنعمة تحرّر القلب من التمسّك بالأمور الدنيويّة والمصالح الشخصيّة، فالحوار والمفاوضات التي يصحبها التخلّي عن المنفعة الشخصيّة والتمسّك بالرأي هي التي ستساهم في نشر الحقّ والسلام.
جائزة «حمائم السلام»
وختم المطران مراد حديثه عبر «آسي مينا»، قائلًا إن الغاية الأسمى من نشر كتابه «راهب في الأسر» المكتوب باللغة الفرنسيّة تكمن في مساعدة المجتمع الأوروبي على التعرّف إلى الشعب المسلم وحقيقته. وأوضح: «المسلمون ليسوا جميعًا مؤيّدين لداعش أو إرهابيين»، مؤكدًا أن الشعب في سوريا يعيش الأخوّة منذ سنين طويلة، وأن الوجود المسيحي في هذا البلد استمرّ وثَبُتَ على الرغم من كل الأحداث التي عصفت به.
نذكر أن المعهد الدولي لنزع السلاح منح المطران مراد جائزة «حمائم السلام» التي يقدّمها سنويًّا إلى شخصيّة ملتزمة في حمل رسالة بناء عالم خالٍ من السلاح.
(Story continues below)
اشترك في نشرتنا الإخبارية
في وكالة آسي مينا الإخبارية (ACI MENA)، يلتزم فريقنا بإخبار الحقيقة بشجاعة ونزاهة وإخلاص لإيماننا المسيحي حيث نقدم أخبار الكنيسة والعالم من وجهة نظر تعاليم الكنيسة الكاثوليكية. عند الإشتراك في النشرة الإخبارية لآسي مينا (الوكالة الكاثوليكية الإخبارية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا)، سيتم إرسال رسالة يومية عبر البريد الإلكتروني تحتوي على روابط الأخبار التي تحتاجونها.
اشترك الآنرسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!
تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته