بكركي, الأحد 18 ديسمبر، 2022
أكد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، في خلال القداس الإلهي الذي ترأسه اليوم في بكركي، أن الوقت قد حان لتضع الدولة يدها على كل سلاح متفلّتٍ وغير شرعي وتطبّق القرار 1701 نصًّا وروحًا لأن تطبيقه حتى الآن هو انتقائي واعتباطي ومقيّد بقرار قوى الأمر الواقع.
ودان الراعي اغتيال الجندي الإيرلندي منذ ثلاثة أيّام، مشدّدًا على أن هذه الحادثة المأساويّة التي تشوّه وجه لبنان تستوجب تحقيقًا شفّافًا لبنانيًّا وأمميًّا يكشف الحقيقة ويجري العدالة.
وجاء في عظة الراعي ما يلي:
«كتاب ميلاد يسوع المسيح» (متى 1: 1).
1.يفتتح القديس متى إنجيله بنسب يسوع إلى البشريّة للإعلان أنّه هو المسيح الملك المنتظر من سلالة داوود، والذي يحقّق وعود الخلاص لإبراهيم، وفقًا لنبوءات العهد القديم. ولهذا قال: «كتاب تكوين يسوع المسيح ابن داوود، وابن إبراهيم»، وأراد أن يكشف أن هذا الإله المتجسّد هو أيضًا إنسان بطبيعته البشريّة.
مع ميلاد يسوع عالم جديد يبدأ. فكما في التكوين الأوّل كان آدم رأس البشريّة الأولى بالطبيعة، كذلك في التكوين الثاني كان يسوع رأس البشريّة الجديدة بالنعمة، فقالت عنه الرسالة إلى العبرانيين إنه «شاركنا في كل شيء ما عدا الخطيئة» (عبرانيين 4: 14)، والقديس أمبروسيوس: «تأنّس الله ليؤلّه الإنسان». هذه هي دعوة الله لنا في الميلاد: أن نهيّئ نفوسنا وقلوبنا ليولد فينا المسيح ابن الله، ويجعلنا أبناء الله بالنعمة
2.يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة، وقد بلغنا إلى حدود الاحتفال بعيد الميلاد المجيد الذي يفصلنا عنه أسبوعٌ واحد. فيطيب لي أوّلًا أن أرفع الشكر معكم ومع جميع أبناء كنيستنا المارونيّة إلى قداسة البابا فرنسيس على قبوله أمس طلب إعلان الطوباويين الإخوة المسابكيين الثلاثة قديسين، بعدما طوّبهم البابا بيوس الحادي عشر في 10 تشرين الأوّل 1926. وهم الشهداء فرنسيس وعبد المعطي ورافائيل. وقد استشهدوا في كنيسة الآباء الفرنسيسكان في دمشق سنة 1860 مع عددٍ من الآباء. ويسعدني أن أحيّيكم جميعًا، وبخاصّة عزيزنا الدكتور جوزف طربيه رئيس مجلس إدارة بنك الاعتماد اللبناني، ورئيس الإتحاد الدولي للمصرفيين العرب، مع بناته وسائر أفراد العائلة الذين نحيّي معهم ذكرى زوجته المرحومة غلاديس مطر التي ودّعناها منذ أسبوعَيْن. نصلّي في هذه الذبيحة الإلهيّة لراحة نفسها ولعزائهم.
ونحيّي وفد الرتباء في الضابطة الجمركيّة مع عائلاتهم. هذه الضابطة تعاني من شغور في الجهاز الإداري. إنهم يطلبون منّا التوسّط لدى المسؤولين في إدارة الجمارك من أجل تطبيق القانون الذي ينظّم شؤون الضابطة الجمركيّة، وفتح مباراة لملء الشواغر في الجهاز الإداري من داخل الملاك، وسنقوم بذلك.
كنّا ننتظر وفدًا من بلدة رميش العزيزة الذين يشتكون من التعدّيات الحاصلة على أراضيهم وعمليّات جرف وبناء إنشاءات تقوم بها جهات نافذة في المنطقة. إننا إذ نأسف لما تتعرّض له أراضي البلدة من تعدّيات في مزرعة سموخيا المحاذية للحدود الدوليّة من عناصر قوى الأمر الواقع التابعة لأحد الأحزاب في المنطقة، نهيب بالأجهزة الأمنيّة القيام بواجبها في حماية أرزاق أبنائنا وطمأنتهم، وإزالة المخالفات فورًا وسحب العناصر الغريبة عن البلدة، ووضع حدّ لكل الممارسات والتعدّيات التي تسيء إلى العيش المشترك، فيشعر أهالي رميش الأحبّاء بأنهم ينتمون إلى دولة تحميهم وتضمن سلامتهم وحرّية عملهم في أرضهم.
3.نجد في الإنجيل المقدّس نسبَيْن ليسوع: الأوّل في إنجيل متى انحداري من إبراهيم إلى يوسف رجل مريم التي منها وُلِدَ يسوع الذي يُدْعَى المسيح (متى 1: 16)، والثاني في إنجيل لوقا تصاعدي من يوسف إلى آدم الذي هو من الله (لوقا 3: 23-38). القديس متى قصد التأكيد أن يسوع هو المسيح المنتظر والملك من سلالة داوود، ومحقّق مواعيد الله الخلاصيّة لإبراهيم، كما أعلن الآباء والأنبياء، منذ القديم. أمّا القديس لوقا الذي يكمّل رؤية متى، فيبيّن أن يسوع هو آدم الجديد، وأبو كل البشريّة المفتداة، ومخلّص جميع البشر، من أيّ عرق ودين ولون كانوا. ويتفرّد لوقا (2: 1-7) بالحديث عن تسجيل يسوع مع أبيه وأمّه في الإحصاء العالمي الذي اضطرّ يوسف ومريم الحبلى بيسوع على السفر من الناصرة إلى مدينة داوود للاكتتاب. وفي هذه الأثناء، وُلِدَ الطفل في بيت لحم وسُجِّلَ في أسرة يوسف ومريم: «يسوع بن يوسف الذي من الناصرة» (يوحنا 1: 45). هذا يعلن بوضوح انتماء يسوع إلى الجنس البشري، إنسانًا بين الناس، من سكّان هذا العالم، خاضعًا للشريعة وللمؤسّسات المدنيّة، ولكن فاديًا للإنسان ومخلّصًا للعالم. «وهذا الذي اكتتب في الإحصاء المسكوني مع البشريّة جمعاء، إنّما أراد أن يُحصي الناس أجمعين معه في سفر الأحياء، ويسجّل في السماوات مع القديسين كل الذين يؤمنون به، له المجد والقدرة إلى الدهور، آمين» (أوريجانس، عظة 11 في القديس لوقا؛ أنظر البابا يوحنا بولس الثاني: حارس الفادي، 9).
4.إن مجموعة الأجيال الثلاثة ترمز إلى مسيرة شعب الله نحو المسيح الذي هو محور البشريّة والتاريخ. المجموعة الأولى من إبراهيم إلى داوود هي مسيرة الإيمان، ومعروفة أيضًا بعهد البطاركة، المجموعة الثانية من داوود إلى سبي بابل هي رمز الخطيئة وعهد الملوك، المجموعة الثالثة من سبي بابل إلى المسيح هي رمز وعد الله الذي ما زال قائمًا لأنّ الله صادق في الوعد وأمانته إلى الأبد حتى تحقّق الوعد في المسيح، وهي عهد ما بعد المنفى (السبي).
5.المقصود من نسب يسوع إلى العائلة البشريّة أن المسيح الربّ هو سيّد تاريخ البشر في مجراه اليومي لكونه «ألفه وياءه، بدايته ونهايته» (راجع رؤيا 1: 8). وهو يعمل مع كل مؤمن ومؤمنة على تحقيق تاريخ الخلاص الذي يشمل البشر أجمعين، ويعطي التاريخ الزمني قيمته وقدسيّته.
أيّها المسؤولون المدنيّون المتعاطون الشأن السياسي، أتدركون أن الله في سرّ تدبيره وضع للعالم نظامًا ليعيش الناس والشعوب في سلام، ويتفاهموا ويرعوا شؤون مدينة الأرض، وينعموا بالخير والعدل. فكانت السلطة السياسيّة التي تطوّرت عبر مراحل إنشائها وتكوينها وصلاحيّاتها، وهي مدعوّة دائمًا لاستلهام مشيئة الله وتصميمه الخلاصي، فيكون على صاحب السلطة أن «يقضي بالبرّ للشعب، وبالإنصاف للضعفاء» (مزمور 72: 2). وأنذر الله الملوك بلسان الأنبياء، بسبب تقصيرهم وظلمهم للشعب، قائلًا بلسان النبي أشعيا: «ويل للذين يشترعون فرائض للإثم والظلم، ليسلبوا حقّ ضعفاء شعبي» (أشعيا 10: 1-2).
أتعرفون أيّها المسؤولون، أن «الله يملك على كل الأمم» (إرميا 10: 7 و10)، ويفرض على متولّي السلطة أن يمارسها محافظًا على شريعته ورسومه؟ هل تعرفون في ضوء كل هذا أن السلطة المدنيّة هي ذات طابع أخلاقي يشكّل الأساس للعمل السياسي؟
فلأنّكم تجهلون كل هذا، أنتم تعتدون على مشيئة الله، وتمعنون في قهر الشعب الذي انتدبكم وائتمنكم: تمعنون في إفقاره وظلمه وتحقيره وحرمانه من حقوقه الأساسيّة ليعيش بكرامة في وطنه، وتمعنون في تشريده وتهجيره، واعتباره كـ«نفاية»، بحسب تعبير قداسة البابا فرنسيس.
6.كفّوا إذن، أيّها السادة النوّاب ومن وراءهم عن هذه السلسلة من الاجتماعات الهزليّة في المجلس النيابي، والمحقّرة في آن لكرامة رئاسة الجمهوريّة من جهة، وللاستفادة من شغورها من أجل مآرب سياسيّة ومذهبيّة من جهة أخرى، فضلًا عن السعي إلى تفكيك أوصال الدولة والمؤسّسات.
عودوا إلى نفوسكم واعلموا أن جماعة سياسيّةً، حاكمةً بالأصالة أو بالوكالة، ومعارضة بالأصالة أو بالوكالة، لا بدّ من أن تسقط مهما طالت السنوات ما دامت تهمل إرادة الشعب وتعتبره كميّةً لا قيمة لها وحرفًا ساقطًا. لقد أرسلكم الشعب إلى البرلمان لتنتخبوا رئيسًا لا لتُحْدِثوا شغورًا رئاسيًّا. والله أعطاكم مناسبة تَجَلٍّ لتنتخبوا رئيسًا في المهلة الدستوريّة، فحوّلتموها زمنَ تَخَلٍّ لا نعرف متى ينتهي، ووسيلة إهمال جديد لرغبة الشعب الذي يريد رئيسًا يحمي ظهر لبنان وصدره لا ظهر هذا أو ذاك. متى كان ظهر الدولة محميًّا، فظهر كل المكوّنات اللبنانيّة يكون محميًّا. الشعب يريد رئيسًا لا يخونه مع قريبٍ أو بعيدٍ ولا ينحاز إلى المحاور؛ رئيسًا يطمئنه هو ويحمي الشرعيّة لتضبط جميع قوى الأمر الواقع؛ رئيسًا يعمل مع مجلس وزراء جديد وفعّال وموحّد الكلمة، فتعود الحياة الطبيعيّة إلى مؤسّسات الدولة وإداراتها.
7.إن كل ما يجري على الصعيد الرئاسي والحكومي والنيابي والعسكري في الجنوب وعلى الحدود، وتآكل الدولة رأسًا وجسمًا، يؤكد ضرورة تجديد دعوتنا إلى الحياد الإيجابي الناشط، وإلى عقد مؤتمرٍ دولي خاصّ بلبنان يعالج القضايا التي تعيد إليه ميزته وهويّته، فلا يفقد ما بنيناه في مئة سنة من نظامٍ وخصوصيّةٍ وتعدّديّةٍ وحضارةٍ وثقافةٍ ديمقراطيّةٍ وشراكةٍ وطنيّة، جعلت منه «صاحب رسالة ونموذج في الشرق كما في الغرب»، بحسب قول البابا القديس البابا يوحنا بولس الثاني.
8.لقد آلمنا للغاية اغتيال الجندي الإيرلندي منذ ثلاثة أيّام، وهو من أفراد القوّات الدوليّة في الجنوب اللبناني. إننا نشجبها وندينها بأشدّ العبارات. ونعزّي بلده الصديق وعائلته، والكتيبة الإيرلنديّة وقائد القوّات الدوليّة وجنودها. وإننا نلتمس الشفاء العاجل لرفاقه المصابين. إن هذا الجندي الإيرلندي الذي جاء إلى لبنان ليحمي سلام الجنوب، استشهد فيه برصاصة حقد اغتالته. هذه الحادثة المأساويّة التي تشوّه وجه لبنان، إنما تستوجب تحقيقًا شفّافًا لبنانيًّا وأمميًّا يكشف الحقيقة ويجري العدالة. لقد حان الوقت، بل حان من زمان، لأن تضع الدولة يدها على كل سلاح متفلّتٍ وغير شرعي وتطبّق القرار 1701 نصًّا وروحًا لأن تطبيقه حتى الآن هو انتقائي واعتباطي ومقيّد بقرار قوى الأمر الواقع، فيما الدولة تعضّ على جرحها، وعلى تقييد قدراتها لصالح غيرها.
9.في زمن الميلاد الذي أشرق فيه نورٌ بدّد الظلمة عن الشعب السائر فيها، نلتمس من المولود الإلهي أن يبدّد الظلمة عن ضمائر المسؤولين لكي يتمكّن المؤمنون من عيش بهجة أنوار الميلاد.
ولد المسيح، هللويا! له المجد إلى الأبد، آمين.
اشترك في نشرتنا الإخبارية
في وكالة آسي مينا الإخبارية (ACI MENA)، يلتزم فريقنا بإخبار الحقيقة بشجاعة ونزاهة وإخلاص لإيماننا المسيحي حيث نقدم أخبار الكنيسة والعالم من وجهة نظر تعاليم الكنيسة الكاثوليكية. عند الإشتراك في النشرة الإخبارية لآسي مينا (الوكالة الكاثوليكية الإخبارية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا)، سيتم إرسال رسالة يومية عبر البريد الإلكتروني تحتوي على روابط الأخبار التي تحتاجونها.
اشترك الآنرسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!
تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته