بيروت, الأحد 9 أكتوبر، 2022
جدّد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي اليوم التشديد على ضرورة انتخاب رئيس للجمهوريّة اللبنانيّة قبل انتهاء المهلة الدستوريّة في 31 أكتوبر/تشرين الأوّل الحالي. ونبّه من خطورة أن تسعى المبادرات الأجنبيّة تجاه لبنان إلى تحسين علاقات الدول مع بعض المكوّنات اللبنانيّة على حساب أخرى. ورأى أنّ الحلّ المنشود للبلاد يقوم على وحدة الولاء للبنان، والسيادة والاستقلال، والحياد واللامركزيّة الموسّعة، ونظام الاقتصاد الحرّ، والانفتاح على المحيط العربي والإقليمي والعالمي، وتطوير الحياة الدستوريّة، انطلاقًا من اتّفاق الطائف بتنفيذه روحًا ونصًّا.
كلام الراعي جاء في عظته التي ألقاها في خلال قداس الأحد الرابع بعد الصليب الذي احتفل به في بكركي. وإليكم نصّ العظة:
«من تراه العبد الأمين الحكيم» (متى 24: 45).
1.لفظة "عبد" لا تعني عبوديّة، بل تشتقّ من فعل "عَبَدَ" وتعني العابد، أي المؤمن الـمُحبّ لله والملتزم بمحبّته التي تتجلّى في أفعال العبادة. وتعني الشخص الذي يختاره الله ويدعوه للمساهمة في تحقيق قصده. يسوع نفسه يُدْعَى في سفر أشعيا "عبد الربّ". إنّه لقب شرف. يُطلقه الكتاب المقدّس على أشخاص أوكل الله إليهم رسالة خاصّة بشعبه مثل: موسى وداوود الملك، والأنبياء والكهنة. حتى "شعب الله" دُعِيَ "عبد الربّ".
2."العبد"، المؤتمن على مسؤوليّة تجاه الجماعة، هو بمثابة وكيل يجب أن يتّصف بفضيلتَيْن: الأمانة والحكمة.
الأمانة صفة أساسيّة من صفات الله، تجعله دائمًا أمينًا لذاته. أمانتنا تدعونا لنكون أمناء على مثاله. وهي: الأمانة للموكِّل الذي هو الله، الأمانة للأشخاص الذين في عهدة خدمتنا، وللهويّة الذاتيّة التي هي حالة قابل الوكالة، ما يعني أنني لست سيّدًا مطلقًا على حياتي ومواهبي وإمكاناتي وممتلكاتي ووظيفتي ومسؤوليّتي، ولِما هو خاصّتي، بحيث أحافظ عليه وأنمّيه وأثمّره لكي يزداد ويكثر، من أجل خدمة أوفر وأشمل، كما جاء في مَثَلِ الوزنات: خمسٌ واثنتان وواحدة (راجع متى 25: 14-30).
تقتضي الأمانة العودة إلى قرار اليوم الأوّل، فتتغلّب على مصاعب ثلاث تهدّدها، هي: رتابة الحياة اليوميّة، والصعوبات والمعاكسات، وشبه صمت الله أو غيابه.
أمّا الحكمة، فهي فضيلة من مواهب الروح القدس وأولى مواهبه السبع. توهَب لنا مجّانًا لكي ننظر إلى أمور الدنيا من منظار الله، ونتصرّف كما لو أنّه هو مكاننا. الحكمة هي الوعي والإدراك الذي يحضّنا على أن نكون دائمًا أمناء. الحكمة تشكّل الإطار الواقي للأمانة.
3.مغزى إنجيل اليوم هو أنّ لكلّ واحد وواحدة منّا واجب تأدية الحساب عند نهاية حياته. فإذا تمّم واجبات وكالته كوفئ بالخلاص الأبديّ. أمّا إذا تنكّر لها وأهملها، فكان نصيبه الهلاك الأبديّ. وكلا الأمرَيْن رهن الإرادة الشخصيّة. بإرادتنا نخلص، وبإرادتنا نهلك، فيما الله يمنحنا كلّ النعم والوسائل لخلاص نفوسنا.
هكذا، من إنجيل اليوم، مجيء السيّد هو الموت الذي يعني اللقاء الأخير والنهائي مع الله، والحضور أمام الله في حالة الأمانة للحياة والإيمان والمسؤوليّة. في هذا اللقاء، يتقرّر مصير كلّ إنسان في حالة ما بعد الموت، أخلاص أبديّ أو هلاك أبديّ.
الموت حتميّ، لكن يومه وساعته غير معروفَيْن. فيجدر الاستعداد للقاء الربّ، عبر الموت، من خلال الأمانة والحكمة المذكورتَيْن. يجب الاعتناء بالحياة والموت على السواء. أوصى دائمًا الآباء القديسون بالقول: "أذكر أيّها الانسان موتك" من أجل تنظيم وتصحيح حياتك في هذه الدنيا.
4.المسؤولون في السلطات الدستوريّة هم موكّلون من الشعب بحسب مقدّمة الدستور: "الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسّسات الدستوريّة" (فقرة د). هذا التوكيل من الشعب يوجب على النوّاب في هذه الأيّام خاصّة انتخاب رئيس للجمهوريّة قبل الحادي والثلاثين من تشرين الأوّل الحالي. وعليه، الشعب اللبناني ينتظر الخروج من أزماته المتراكمة واستعادة دوره تجاه ذاته ومحيطه، لكنّه لا ينظر بارتياح إلى شعار التغيير، إذ يخشى تمويهه بين حدَّيْن: تغيير أسماء من دون تغيير شوائب النظام، وتغيير النظام التاريخي والديمقراطي من دون إسقاط نظام الأمر الواقع. فلا بدّ من إيجاد الحلول الصحيحة لخير لبنان وشعبه.
5.وانتظر الشعب اللبناني وينتظر الى أن تُصوِّب المبادرات الأجنبيّة إلى جوهر الأزمات في لبنان. ولكن يبدو أنّها غضّت النظر ربّما عمدًا عن هذا الجوهر، فباءت تلك المبادرات بالفشل.
وفيما يقدّر شعب لبنان مبادرات الدول الصديقة، يهمّه أن تَصُبَّ هذه المبادرات في خلق مشروع حلٍّ لبنانيٍّ متكامِلٍ يحسِّن علاقات اللبنانيّين ببعضهم البعض، لا أن تُحسِّنَ علاقات هذه الدول الأجنبيّة ببعض المكونات اللبنانيّة على حساب أخرى، ولا أن تُحسنَّ علاقاتها بدول إقليميّةٍ على حساب لبنان. الحلُّ المنشودُ يقوم على وحدة الولاء للبنان، وعلى السيادة والاستقلال، وعلى الحياد واللامركزيّة الموسّعة، ونظام الاقتصاد الحرّ، وعلى الانفتاح على المحيط العربي والإقليمي والعالمي، وعلى تطوير الحياة الدستوريّة انطلاقًا من اتّفاق الطائف بتنفيذه روحًا ونصًّا.
6.آن الأوان لكي ينكشف المرشّح لرئاسة الجمهوريّة الفارض نفسه بشخصيّته وخبرته وصلابته ووضوح رؤيته الإنقاذيّة وقدرته على تنفيذها. إذا انتُخب مثل هذا الرئيس، نال للحال ثقة الشعب اللبناني والأسرة الدوليّة والعربيّة. الشعب ونحن لا نريد رئيس تسويات.
البطريركيّة المارونيّة من جهتها لا توزّع تأييدها للمرشّحين، خلافًا لما يُروِّجُ البعض، إنما تدعمُ الرئيس الناجح بعد انتخابه، وبعد تبنّيه الجدّيٍ والفعلي بنود الحلِّ اللبناني برعايةٍ دولية. نحن لم نشعر بأيِّ إحراجٍ مع جميع الذين أمّوا الصرح ويؤمّونه مستطلعين رأينا. كما لم نشعر بأيٍّ إحراجٍ في إجراء مناقشةٍ صريحةٍ مع هؤلاء جميعًا. ما نصارحهم به هو سلوك الخطّ المستقيم حتى البلوغ إلى الإجماع على شخص الرئيس المميّز بكلّ أبعاده. نعني الرئيس الذي يعبّر عن إرادة المجتمع اللبناني لا رئيسًا يستأنس بالولاء للخارج. لم يعد لبنان يتحمّل أنصاف الحلول وأنصاف الصداقات وأنصاف الرؤساء وأنصاف الحكومات ولا أنصاف الولاءات.
7.هلمّوا، أيها النواب، وانتخبوا رئيسًا نتمنّاه في جلسة 13 تشرين الأوّل المقبل، وليكن هذا التاريخ حدًّا فاصلًا بين مرحلة تعطيل الدولة ومرحلة بنائها. ثمّ شكّلوا حكومةً جامعةً لا فئويّة. حكومة الشعب لا حكومة حزبٍ أو تحالفٍ أو فئةٍ تريد أن تهيمن على البلاد بالواسطة. فالشعب يرفض حكومةً على قياس البعض كما يرفض رئيسًا غُبّ الطلب.
8.نرفع صلاتنا اليوم إلى الله كي يتقبّل انتظارات اللبنانيين، ويخرج لبنان من جحيم أزماته، والشعب من حالة بؤسه. فالله سميع مجيب! له المجد والشكر الآن وإلى الأبد، آمين.
اشترك في نشرتنا الإخبارية
في وكالة آسي مينا الإخبارية (ACI MENA)، يلتزم فريقنا بإخبار الحقيقة بشجاعة ونزاهة وإخلاص لإيماننا المسيحي حيث نقدم أخبار الكنيسة والعالم من وجهة نظر تعاليم الكنيسة الكاثوليكية. عند الإشتراك في النشرة الإخبارية لآسي مينا (الوكالة الكاثوليكية الإخبارية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا)، سيتم إرسال رسالة يومية عبر البريد الإلكتروني تحتوي على روابط الأخبار التي تحتاجونها.
اشترك الآنرسالتنا الحقيقة. انضمّ إلينا!
تبرّعك الشهري يساعدنا على الاستمرار بنقل الحقيقة بعدل وإنصاف ونزاهة ووفاء ليسوع المسيح وكنيسته